​الغزو الذي لا يتحدث عنه أحد.. روسيا تبتلع بيلاروسيا في صمت

> «الأيام» مجلة "الأتلانتيك":

> في غضون شهر، استطاع فلاديمير بوتين -بفاعليةٍ- تحويل دولة سوفيتية سابقة إلى امتداد للأراضي الروسية، على مرأى ومسمع من الولايات المتحدة وأوروبا، دون إطلاق رصاصة واحدة داخل تلك الدولة. لم يحدث ذلك في أوكرانيا، بل في بيلاروسيا المجاورة، التي احتضنت على أراضيها الجنود الروس ومعداتهم العسكرية منذ بداية العام بدعوى التدريبات المقررة بين جيشي البلدين. وفي 19 فبراير الماضي، أعلنت الحكومة البيلاروسية احتمالية بقاء الجنود الروس البالغ عددهم 30 ألفا على أراضيها، فيما يُعَد أكبر تمركز لموسكو في مينسك (عاصمة بيلاروسيا) منذ نهاية الحرب الباردة.


بغض النظر عما يحدث في أوكرانيا، يعد هذا نصرا كبيرا لبوتين في حربه مع الغرب، فالخطوة لا تمثل انتهاكا للسيادة البيلاروسية فحسب، ولكنها تمثل أيضا تحديا للناتو بوصفه الكفيل الأمني في البلطيق، حيث تشترك بيلاروسيا في حدودها مع ثلاث دول أعضاء في الناتو. ومع ذلك، قلة هم القادة من خارج منطقة البلطيق الذين علقوا على ذلك الإعلان أو صرَّحوا كيف يخططون للرد عليه.

معضلة بيلاروسيا

لم يكن من السهل دائما تجاهل بيلاروسيا، فقد جذبت البلاد أنظار العالم عام 2020 بعد انتخابات رئاسية مزوَّرة ضمنت إطالة أمد عهد القائد الذي حكم طويلا، "ألكسندر لوكاشِنكو"؛ ما أشعل أكبر تظاهرات مؤيدة للديمقراطية في تاريخ البلاد. وقد نجا لوكاشِنكو بمساعدة الحكومة الروسية، التي وفَّرت له قوات الشرطة لسحق التظاهرات، والتمويل اللازم لتجاوز العقوبات الغربية، وبات العالم فجأة ينظر إلى بيلاروسيا على أنها دولة تابعة، رغم أنها دولة محايدة كما يفترض (ومنصوص على حياد جيشها في الدستور)، بل وعادة ما اشتكى قائدها من التدخل الروسي.

بعد عامين، آتى الاستثمار الروسي أُكُله على نحو كبير، فلم يصبح بإمكان بوتين المطالبة بامتداد إستراتيجي في خضم نزاعه المتصاعد مع أوكرانيا فحسب (إذ تبعد كييف حوالي 225 كيلومترا فقط عن الحدود البيلاروسية)، بل نجح أيضا في توطيد وضع بيلاروسيا داخل نطاق نفوذ موسكو. وفي الأشهر الأخيرة الماضية، اعترف لوكاشِنكو بضم روسيا للقرم عام 2014، وتعهَّد بدعم موسكو في أي صراع عسكري يتضمن أوكرانيا. ومن المتوقع إجراء تعديل دستوري قريبا لشطب المواد التي تضمن حياد بيلاروسيا رسميا، بالإضافة إلى شطب التزامها بألا تستضيف على أراضيها سلاحا نوويا.

وقع هذا التدهور في بيلاروسيا بوتيرة أسرع مما توقعت المعارضة البيلاروسية المنفية في ليتوانيا، وقد حمل هذا التحول معه إنذارا. صرَّح لي "فراناك فياتشوركا"، مستشار كبير لدى قائدة المعارضة البيلاروسية "سفيَتلانا تسيخانوسكايا"، قائلا: "نحن نشهد في بيلاروسيا نسخة أنعم مما نشهده في أوكرانيا، الاختلاف الوحيد هو أنه في أوكرانيا تواجه الدولة الاحتلال، أما في بيلاروسيا فإن الدولة تدعمه".

لن يمر هذا التحول مرور الكرام في أماكن مثل بولندا ودول البلطيق التي طالما نظرت إلى بيلاروسيا باعتبارها الحصن المنيع بينها وبين روسيا. فقد جلبت بيلاروسيا، بتنازلها عن أراضيها لموسكو، القوات الروسية بالفعل إلى عتبات بولندا والبلطيق. وهناك منطقة واحدة خصوصا توقَّف عندها القادة العسكريون والخبراء، وهي شريط حدودي يبلغ طوله 105 كيلومترات تقريبا يقع على الحدود البولندية-الليتوانية، ويعرف باسم "ممر سواوكي (Suwałki)"، ويربط بيلاروسيا بمنطقة "كالينينغراد" الروسية المعزولة عن بلدها الأم، والواقعة إلى الغرب من بيلاروسيا والبلطيق وإلى الشرق من بولندا، يربط هذا الممر أيضا دول البلطيق ببقية دول الناتو في أوروبا، فإذا استولت القوات الروسية على الممر، فلن يكون لديها طريق سريع يصلها ببولندا وليتوانيا فحسب، بل ستكون قادرة أيضا على فصل دول البلطيق الأعضاء في الناتو عن بقية دول الحلف.

لم يعد التهديد الذي يشكله "ممر سواوكي" تهديدا نظريا، فقد صرح لي "بِن هودجز"، القائد السابق للجيش الأميركي في أوروبا، قائلا "إنه يعد الآن نقطة ضعف كبيرة". ومن منطلق رؤية هودجز، فحتى إن انتهت الاعتداءات الروسية في أوكرانيا، فإن سيطرة موسكو على بيلاروسيا ستبقى دائمة على الأرجح، بل وقد تصبح ذات طابع رسمي مستقبلا، وذلك من شأنه ليس فقط تدمير استقلالية بيلاروسيا التي تخلى عنها لوكاشِنكو، بل سيشكل أيضا تهديدا دائما لحلف الناتو.

حشد القوات الروسية في بيلاروسيا يعزز تفوق الجيش الروسي على الناتو في المنطقة.
حشد القوات الروسية في بيلاروسيا يعزز تفوق الجيش الروسي على الناتو في المنطقة.

الثمن الفادح

لا عجب إذن أن قادة ليتوانيا ولاتفيا كرَّروا دعوات الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلنسكي" إلى الغرب بفرض عقوبات فورية على روسيا، وهو الإجراء الذي تردَّدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في اتخاذه في البداية قبل الغزو الروسي لأوكرانيا؛ أملا منهم في أن يردع التهديد بالعقوبات وحده الاستفزازات الروسية، بيد أن سيطرة موسكو العسكرية على بيلاروسيا، وما أعقبها من تمركز للقوات الروسية في المناطق الانفصالية بشرق أوكرانيا، وضعت حدا لهذه الآمال الواهية.

"في عام 2008 (في جورجيا)، وفي عام 2014 (في القرم)، ومجددا هذه المرة، أظهرت روسيا قدرتها على استخدام التهديدات العسكرية ضد جيرانها"، هذا ما أخبرني به متحدث رسمي باسم وزارة الخارجية الليتوانية عبر البريد الإلكتروني، مضيفا أن "بيلاروسيا تُعَد مندمجة بالفعل بحكم الأمر الواقع في هيكل الجيش الروسي…

وحشد القوات الروسية في بيلاروسيا يعزز تفوق الجيش الروسي على الناتو في المنطقة. هذه التطورات تتطلَّب وضعا أقوى دفاعيا ورادعا من جانب الناتو في منطقة البلطيق".

لطالما ركز القادة والمحلِّلون الغربيون في نقاشاتهم بشأن بيلاروسيا على التهديد الذي يشكله الوجود الروسي في البلاد على أوكرانيا، بيد أن التهديد يمتد إلى السيادة البيلاروسية أيضا. والمشكلة بالنسبة إلى بيلاروسيا هي أن قيادتها رحَّبت بوجود موسكو على عكس أوكرانيا، حتى لو أراد الغرب اتخاذ موقف للدفاع عن سيادة بيلاروسيا، فقد لا تكون لديه دعائم كافية لفعل ذلك، إذ إن قادة المعارضة في بيلاروسيا إما في السجون وإما في المنفى. أما الشعب البيلاروسي فيظل تحت سيطرة مُحْكَمة من قوات الأمن في بلاده، التي أظهرت بالفعل عدم تسامحها مع التظاهرات السلمية. ويقول "فياتشوركا" في هذا الصدد: "ما من مساحة للحراك، إننا نشعر وكأن الجميع قد تخلَّى عنَّا".

ومع ذلك، يتجاهل الغرب بيلاروسيا رغم فداحة الثمن. وما دامت القوات الروسية على الأراضي البيلاروسية، فإن بوتين ستكون لديه الوسائل اللازمة لتهديد كييف وحلف الناتو عن قرب. وما بدأ في بيلاروسيا، لن ينتهي بالضرورة عند حدودها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى