يابلي.. وا حر قلباه

> قال لي ذات مرة:

عدن توأم روحي..

قالها لي ذات زمهرير سياسي عاصف حول عدن إلى مدينة أشباح، ليلها ما طلع له نهار، يستوطن أزقتها متلاصقة الشفاه القتلة واللصوص ومصاصو الدماء.

عجبت من أمار هذا الرمز الذي آخى تراب عدن مؤخرا قافزا من وحل الواقع المؤلم إلى ثرى معطر بأنفاس حبيبة قلبه (عدن) التي ستحتفظ برفاته إلى يوم البعث.

كنت أرى الأستاذ الراحل إلى جوار ربه (نجيب محمد يابلي) مثل سحابة بيضاء في بياض قلبه مشبعة بأمطار الخير، التحف الضباب وغاص في الهضاب وعشق شعاب عدن عشقا مبرحا إلى درجة التقديس.

عذرا.. في مأتم عدني كبير تصبح الكلمات عن (اليابلي) أكثر شيخوخة من كل الأشياء، تنعي أديبا غرق حتى شحمة أذنيه في هموم القافية، و هام مع الشعراء برا وبحرا والشعراء يتبعهم الغاوون، كان كمن شيد للأنغام لحنا يعزفها بأوتار قلبه.

أنعي مؤرخا لسان أرقامه أصدق أنباء من كل الكتب، أنعي مناضلا مفرداته حمم بركانية تحرق جلود الفاسدين، أنعي ثائرا كلماته مثل طلقات الرصاص لا تخطئ هدفها، أنعي يدا أمينه لم تكن تحتاج لقفاز ليخفيها.

أنعي أرشيفا جنوبيا متحركا يساوي دولة بكل مساحة رقعتها الجغرافية، هو عبقري حليم يقرأ طلاسم الواقع ويفك شفراته بمنتهى الدقة، دائما جاهز بالدليل الساطع القاطع، لا يهادن الأسود أسود، والأبيض أبيض، لا مجال عنده للمساومة ولا للتلاعب بالألوان.

أنعي كاتبا شاملا نذر حياته لتخليد سيرة الأبطال والأساطير بمختلف توجهاتهم وفنونهم، ينصف هذا وينصف ذاك، ويضع الفواصل بين حبيب الملايين وعابد الملاليم، قال كلمته ماراثونا من حكايات ألف ليلة وليلة، ثم علق وصيته الأخيرة على أجراس العاصفة.

نجيب يابلي أسطورة لا تتكرر كثيرا، هو هدية السماء للمعذبين في الأرض، يؤازرهم في المحن يساندهم في الفتن، يقاسمهم المعاناة، لكنه غفا غفوته الأخيرة بعد رحلة طويلة من الإبداع التلقائي والرسم بالكلمات، نام أخيرا ملء جفونه عن شواردها تاركا السهر لخلق قد يختصمون لكنهم سيجمعون على أنه آخر الرجال المحترمين.

الآن أيها النجيب رحلت وتركت لنا حسرة نازفة ونحيب تهتك عويله، أرض عدن ضمت رفاتك ولفتك بزندها، فما أحلى رائحة سيرتك المحمودة، وما أجمل شذى ذكرياتك العطرة، وما أروع تجليات موازينك.

هل كان (نجيب يابلي) مفكرا عاديا يحمل شوكته فوق ظهره كالعقرب تماما؟

لا أدري، غير أنني عرفته بحرا في أحشائه الدر كامن، تفكير يتجدد من وحي مواقفه وأفقه الذي لا ينسد، أفق مناضل يحارب بالكلمات صاغته إنسانيته، كان نجيب مثل نخلة باسقة معقود بنواصيها كل الخير، فلا يطرح سوى رطب جني فيه لذة للجائعين أمثالي.

الرأسمالية خلقت ماركس والفقر المدقع في صقلية أنتج غاليبالدي والأوتوقراطية الروسية هي التي شكلت لينين، وجبروت الاستعمار البريطاني هو الذي فجر إبداعات غاندي، أما نجيب يابلي فقد أنتجته طبيعة عدن فوضعت فيه خلاصة الخلاصة.

عاش (نجيب) بيننا حياة صاخبة ومتقلبة، ومع كل محنة كان يضع نفسه خط الدفاع الأول عن عدن خاصة والجنوب عامة، ينتصر للحق ويدحض الباطل، لذا لم نره يوما متشائما، ظل حتى لحظات الحشرجة بطلا متفائلا ينبض بالحيوية والعطاء.

ترقبوا نجيب دائما في مد البحر وجزره، في الريح والموج والنوء القوي، سترونه حتما في كل تفاصيل حياتنا، نقش تاريخه الطويل في الصخر والرمل وفي كل قلب عدني، رحل (نجيب) بعد أن استوطن أفئدتنا واحتل غرف قلوبنا وتدثر برموشنا، وسيظل بيننا في المنتديات مثل المتنبي: شاغل الناس وشاغل الدنيا.

هذا (نجيب) الذي وهب حياته للناس، صار تذكارا و رسما في القلوب ووشما في العقول، طيفه هنا في كل دار وكل جار وكل ولد بار، سيبقى هنا تحت الثرى شاهدا على حبه العذري لعدن، ومع لحظات الغسق سيرسم بالشفق ميلاد فجر جديد لوطن أنهكته عذابات المخاض.

حسبي أن عشق (نجيب) لعدن غرام خالد من نوع نادر، فهو عندما أبحر في هوى عدن من غير ديرة وربان كان كمن يكتب سيرة أحزانه وأحزان مرحلة سياسية بكل قاذوراتها، حسبت أن الشاعر الغنائي الراحل (حسين المحضار) خص (نجيب يابلي) بهذين البيتين:

الهوى نار تسري في فؤاد المعنى ما لها شي سرر.. غير لوعة وأنات الهوى بعد طول الوقت تلقي أثر.

عانك الله يا نازل بحور الهوى من غير ديرة وربان

عندما غفت نبضات (نجيب) في صدره ارتسمت على لسانه سعادة مكفنة بالرجاء، كان كمن يريد أن يكتب وصيته الأخيرة على سماء عدن، أظنه كان يودعنا بقليل من الأمل وكثير من الألم، لكنه كعادته يزرع الثقة في نفوسنا حتى في لحظاته الأخيرة.

في الواقع كان (نجيب يابلي) وقورا فقد كان يرى العالم مليئًا بالحماقات، من هذا المنطلق كان فيلسوفا في معالجة القضايا السياسية المعقدة، ولفك تعقيداتها وكشف طلاسمها كان دائما يبدأ بالشك فينتهي إلى اليقين.

أولى (اليابلي) القضية الجنوبية أولوية خاصة، كان إيمانه راسخا بأن التسامح والتصالح جناحا نهضة الجنوب ومفتاحا ترسيخ المعنى للوصول إلى المبنى والمبتغى، كان يقول دائما:

"بناء الجنوب على أسس وطنية وحمايته فكريا والذود عن حياضه مسؤولية الشعب في المقام الأول".

هناك رجال لهم تاريخ، لكن (نجيب يابلي) هو تاريخ الجنوب نفسه، كان شاهدا على كل مراحل الصراع من لعنة الرفاق إلى حرب الوحدة أو الموت وغزو الحوثيين ونهاية بطوائف الجنوب الذين يتاجرون بالقضية عيني عينك.

كان (نجيب) يعلم حجم مأساة ملوك الطوائف الذين أضاعوا الجنوب بشربة كأس، لهذا آثر هذا الجبل الشامخ أن يؤسس لنا وطنا بالكلمات والمقالات والمواقف الملتهبة، لم يساوم على قضيته فرحل فقيرا معدما تاركا خلفه كوخا يخلد قناعته وعفته وطهارة يده.

هذا المساء يا (نجيب) رأيت في المرآة كيف يكون مسائي، تجنح الشمس نحو الغروب، كل الطلول وما على البقعة الجغرافية تتوشح بنقاب من الشفق الدامي، كأني أرى شمس عدن تبكي وتذرف دموعها شفقا من الدماء، وهذا بحر عدن يتمطى مملوءا بآهات من الوجع، وتلك الجبال ينبعث منها أنين خافت و زفرات ملتهبة ترثيك وتبكيك وتشيعك إلى مثواك الأخير.

نعم يا (نجيب) يمكنني استرجاع قليلا من عبق ماضيك بحثا عن ذكريات تقبع بهدوء متخيلة عن شراستها، أستطيع استخراج قليلا منها في لحظة الوداع.

كنت رجلا متقشفا خجولا أمام الناس، قويا ثابتا أمام قضاياهم، رغم سعة صدرك إلا أن وجهك دائما كانت ترتسم عليه مسحة من الحزن، وهذا طبيعي لرجل حساس مثلك لم يضق يوما ما ذرعا من حمل همومنا والدفاع عن أحلامنا وحقوقنا.

الآن وقد انتقلت إلى الدار الآخرة لك أن تنام بهدوء، فمواقفك دخلت كل بيت، وغيث إنسانيتك روى هذه الأرض العطشى، وسحابة خيرك أمطرت وعيا وحبا ووطنا، لم نر مثلك في التحدي، كنت صنديدا طودا شامخا لا يخشى في الحق لومة لائم.

أرثيك يا (نجيب) بقلب مثقوب من الألم، أبكيك يا علما بدموع حراء اشتكت منها أضلعي، أرثيك يا طيفا توارى عن الأنام وفي حلقي غصة وعلى لساني كلمات مالحة.

أيها المعلم، يا شجرة الجنوب المثمرة والوارفة، وا حر قلباه من وداع مؤلم شاق ومتعب ومضن، لكنه قضاء الله وجزاء الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله و إنا إليه راجعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى