نجيب محمد يابلي ترجل عن دنيانا وصعد

> لحسن حظ الناس في هذه المدينة الواقعة بين البحر والجبل، الذين يصفون صيفها الحار بأنه أبرد على قلوبهم من ثلوج القطب، أن الله قيض لها ومن بين ظهرانيها من هو على شاكلة (علاء الدين) في (ألف ليلة وليلة) الأسطورية، يسير في طرقاتها وضيقات حواريها وفي شوارعها وأحيانا كأنه يخرج من موجة باذخة على ساحلها حيث تتكسر مياه خليج عدن على أقدام جبل صيرة، فاركا عينيه لتتسع الرؤيا لخطوات أخرى بين (الطويلة) و(حارة حسين) ذهابا أو إيابا، ثم ليوزع ابتساماته لأطفال (الزعفران) ولا يكل، ورشاقته تسير معه حتى يدلف (بيت أبي سفيان) في (الرزميت).. دار "الأيام"، فهو آمن الآن إذًا، ومحتفى به من الجميع، وفي جعبته ما يوزعه عليهم في (ديوان) البيت الآمن من قفشات ونوادر ونكات وحكايات وفي أحايين الغضب تصريحات نارية ترعب (الأربعين حرامي) في المدينة أن تسللت إليهم عبر آذان الحائط كما يقول المثل الإنجليزي.

كل ذلك يجري وهو واقف لم يحط ركابه بعد في مكانه المعتاد مواجها صاحب الدار الزعيم هشام - رحمه الله، ثم تهدأ سكينته ويجلس ويبدأ بإخراج وترتيب أدواته الكثيرة من سلته أقلام متنوعة وورق مصقول ومفكرة دون فيها ما التقطه من فضاء الحياة اليومية وبعدها يضع أمامه القات وحبيبات اللوز المصاحبة وأشياء أخرى إن بدت تسركم، ثم يمسك القلم وكأنه يقول: في البدء كانت الكلمة.

الأستاذ نجيب محمد يابلي متسق تماما مع ذاته، يكتب ما يراه حقا دون انتظار، وباستطاعته أن يكتب مرة ومرة برشاقة قلم وفكر موات، وباستطاعته أن يخلق من حديث عابر مع عجوز عدنية قابلها صدفة في بقالة أو على قارعة الطريق قصة إنسانية تنبع من قاع هذه المدينة الساحرة.

لم أكن لألتقي بنجيب إلا وواسطة عقدنا الباشراحيل هشام وكأنه قد نفخ فينا من سحر هاروت "الأيام" ليجعلها منصة لنا يقف عليها كل صاحب حق مسلوب أو مصادر في هذا الوطن.

وكأننا ننزع من ذات المصدر دون أن يلقننا صاحبنا الكبير كلمة أو حرفا وقد أدرك بعبقريته وفراسته أننا ننهل من ذات المصدر وأننا لا نرضى لمدينتنا العريقة ما نراه بأم أعيننا من دمار وكأننا نستلهم قول البياتي عبدالوهاب: هجم التتار ورموا مدينتنا العريقة بالدمار.

كان مفتاح الشفرة الجينية لنجيب يابلي عدن، الناس والجغرافيا والتاريخ، وهي منتهى الأرض عند نجيب وليس اليمن فقط كما يقول القمندان في هديته على لسان الشاعر القديم:

تقول عيسى وقد وافيت مبتهلا

لحجا وقد بانت الإعلام من عدن

أمنتهى الأرض يا هذا تريد بنا

فقلت كلا ولكن منتهى اليمن

لقد افترضت هكذا أن يابلي قد وجد ضآلته في "الأيام" كما وجدت هي فيه أديبا وصحافيا متمكنا ورجلا مكتملا يواكب سياسة الصحيفة وأهلها في جهودهم لإيقاظ شبه النائمين ممن ذهلوا مما حدث بعد اجتياح عدن في 7/ 7/ 1994م، وشكل إضافة نوعية في الصحيفة فله ما بين المقالة والمقالة مقالة بخط ثابت ولكنه متنوع قريب الفهم من عقليات القراء، وهذا الخط في الكتابة هو نفسه ملمح نجيب النفسي والقيمي والأخلاقي في حياته اليومية مذ خروجه من بيته حتى عودته إليه مشبعا بحكايات الشارع ومعاناته من مصادره أثناء سيره أو عندما يستقل تاكسي الأجرة أو الباص أو داخل أروقة عمله أو أثناء ارتشافه الشاي في مقهى بكريتر أو الشيخ عثمان.

لا بأس يستطيع اليابلي إيقاف محدثه ليخرج مفكرته ويشرع بتدوين ما أعجبه من كلام المتحدث، ثم يدخل هذا الكلام تضمينا في مقالاته التي عادة ما يكون الاستشهاد فيها من أفواه وأقوال الناس.

ثم تزداد القطرة فوق القطرة ليغدو نجيب محمد يابلي أميرا شعبيا على رأسه تاج مصنوع من محبة الناس له.

وسوف يتذكر قراؤه أن لليابلي قاموسًا في اختيار مفرداته من ذاك الذي نسميه السهل الممتنع الذي لا يخلو من سخرية السعدني وتنكيت عبدالله النديم.

إن مقالات اليابلي الكثيرة لم تعد كثيرة عنده وكأنها لم ترو ظماءه لإعطاء مدينته الساحرة حقها، فبدأ بتجميع أسرار المدينة وحكاويها ومآثر رجالها وفتيانها وفتياتها بعضه أعطاه مسمى (رجال في الذاكرة) ما وفر له موسوعة كاملة أعادت على صفحات "الأيام" مآثر قوم ماتوا ولم تمت مآثرهم، أنصفهم بعد أن طمست أو نسيت أو شوهت أعمالهم في الحياة، وكان محقا كما كنا مخطئين عندما استعرض حياة بعض الأحياء وكأنه يقول للمعترضين قول اللحجي البارع صالح نصيب: (كرموني ونا عيش)، وباستطاعة جيل بأكمله من الشباب الجديد أن يتعرف على مفردات عدن بأثر لا يموت تركه اليابلي لعدن.

كان الأستاذ نجيب محمد يابلي بمثابة (صندوق دنيا عدن) ستجد فرجة تمتعك من تاريخ عدن، وعندما كانت شوامخها وآثارها ومعالمها تتعرض للعدوان أيام النظام السابق أو على أيامنا وبشكل أفضع من أعدائها الجدد كان أول المنتفضين والمتصدين لهم نجيب يابلي.

عوالم اليابلي متنوعة ومتجددة ومجهدة أيضًا من صخب اللقاءات والندوات والمشاركات المختلفة إلى عبء الوظيفة والسهر الطويل لإنجاز متطلبات صاحبة الجلالة إلى إشاعة جو من الدفء والمحبة في أرجاء بيته الصغير، عقيلته الفاضلة وجهاد وأختيه والأحفاد مما يشكل عالما صغيرا من البهجة الدائمة تغذي اليابلي بالطاقات اللازمة لمواجهة أعباء حياته الواسعة.

وهناك مفاصل صغيرة بدونها لا تكتمل الشخصية ومفاتيحها السكلوجية لتتجلى الصورة كاملة لليابلي الكبير.

فكوب الشاي بعد و جبة الغداء من الضروريات ثم قيلولة قصيرة قبل ان يلتحق بمكانه المعتاد في منتدى "الأيام" قبيل مغيب شمس الأصيل.

فرقت بيننا صروف الحياة، وفاة الزعيم هشام باشراحيل أولا والحرب الضروس العدوانية عام 2015م ثانيا، لكننا نقتنص بين الفينة والأخرى لحظات مشبعة بخواطر ما مر، ورمانة ميزاننا الوجه الثاني لهشام أخونا الرائع والنابه الأستاذ تمام باشراحيل بينما أطياف الراحل الكبير هشام تملأ خلجاتنا في (الديوان) لحظة بلحظة.

وعلى مسافات متباعدة كنت أزور اليابلي في عرينه منتدى (محمد يابلي) وخاصة في شهر رمضان، الشهر الذي ودعنا نجيب هذه المرة قبل استهلاله بأربعة أيام.

أستطيع تقبل كثيرا من العوارض والرزايا والمفاجآت غير السارة إلا هذه المرة، فقد ألمني ما ألم بنجيب من مرض خبيث وكنت أقنع نفسي بأن نجيب بصورته النمطية المنقوشة في عقلي الباطن -وكما أريدها له- ستكون بعيدة المنال عن مآلات المرض وما يصنعه بالإنسان، فكتبت مقالة عنه لا أواسيه أو أشفق عليه فيها عند سفره للعلاج في مصر العزيزة متعمدا، لأن نجيب لا يحب ذلك، واعتبرت أن الرحلة فرصة له لرؤية مصر عن قرب والكتابة عنها. كنت أفرغ كلماتي في صفحة الأستاذ تمام والدموع تملأ عيني.

هذا الرجل النادر نجيب محمد يابلي يغادرنا مشيعا بحب كل من عرفه عن كثب أو كان واحدا من قرائه وما أكثرهم في داخل الوطن وخارجه، وسيظل نجيب يدهشنا بشخصيته العبقرية وشخصه الرائع حيا وميتا.

وداعا أبا جهاد وإلى جنة الخلد أيها الحبيب الغالي.

"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" صدق الله العظيم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى