​قضية سمرقند

> الحلقة السابعة

ورجع يطوي هذه الشقّة مرة ثانية، وكلما وصل إلى بلد دخل المسجد فوقف في الصف، كتفه إلى كتف أخ له في الإسلام ووجهته وجهتُه، وفي قلبه إيمانه وعلى لسانه تسبيحاته وتكبيراته ... أحس أنه عضو في هذه الجمعية الكبرى، وأدرك عظمة هذا الدين وحلاوته إذ يؤم المصلين واحد منهم، فلا قساوسة ولا كهّان، ويصلون في كل أرض، فلا معابد ولا تماثيل، ويقفون جميعاً صفاً واحداً، فلا كبير ولا صغير ولا مأمور ولا أمير. وشعر بعظم هذه الدائرة التي تطيف من حول الكعبة تمر على السهل والحزن، والعامر والغامر، والمدينة والقرية، يقوم فيها عبادٌ لله هم رهبان في الليل وجِنٌّ في النهار، خاشعة قلوبهم، وأبصارهم وجوارحهم، يقفون أمام رب العالمين فلا يبالون الدنيا كلها، بلذائذها وآلامها وخيرها وشرها.

ولم تثقل عليه هذه المرة سعة دنيا الإسلام لأنها صارت دنياه، ولم يجد لهذه السفرة مشقة ولا تعباً لأنه كان كلما انقضت الصلاة وجد في المسجد (في كل بلد يمر عليه) مَن يسأله عن حاله، فإذا علم أنه غريب أنزله داره، وقدّم له قِراه، ومنحه عونه، فكان يقابل بين مجيئه كافراً وبين عودته مسلماً، وكيف كان يشعر بطول الشُّقة وبعد الطريق وألم الغربة، فصار يتقلّب في النعيم ويُحمَل على أكف الإخوان، فيدرك سر المسجد وجمال هذا الدين!

ووصل إلى المعبد، ولكنها لم ترعه - هذه المرة - تماثيله ولا مصابيحه، ولم يمتلئ قلبه فَرَقاً من أسراره وخفاياه؛ فقد أضاء له الإسلام ظلمة الحياة فرأى حقائقها من أوهامها، وعلم أن هذه الأصنام التي نحتوها بأيديهم وسموها آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تمنع عن نفسها ضربة الفأس ولا لهب النار. ولكنه كتم إسلامه، وقرع الباب قرعة السر ففُتح له، ورآه الكهنة بعد أن حسبوا أنهم لن يروه أبداً، ووصف لهم ما رأى فكادت أعينهم تخرج من حناجرهم دهشة وأيقنوا أن قد جاءهم الفرج، وأمروه فحمل الكتاب مختوماً إلى العامل فإذا فيه أمر الخليفة بأن ينصب قاضياً يحتكم إليه كهنة سمرقند وخليفة قتيبة، فما قضى به نفذ قضاؤه.

وأطاع العامل ونصب لهم قاضياً، جميعَ بنَ حاضر الباجي، وعين موعد المحاكمة. ولما عاد فأخبر الكاهن الأكبر أظلم وجهه بعد إشراقه، كما ترْبَدّ في سماء النهار الصحو السحبُ السود، وخبا ضياء الأمل الذي بدا له فحسبه فجراً صادقاً فإذا هو برق خُلَّب ... وأيقن أن هذه المحاكمة فصل جديد من كتاب غدر المسلمين.

وجاء اليوم الموعود، واحتشد أهل سمرقند من كل قاصٍ منها ودانٍ، وجاء الكهنة الذين كانوا محتجبين لا يراهم أحد، وجاء القائد الفاتح الذي خلف قتيبة. وكانت المحكمة في المسجد، فقعدوا ينتظرون القاضي.

ولم يكن الكهنة يأمُلون في شيء ... وفيمَ يأمُلون؟ في أن يحكم لهم القاضي المسلم بطرد المسلمين من سمرقند؟ يحكم لهم هم المغلوبين على أمرهم، المخالفين للقاضي في دينه، الذين لم يبق لهم حول ولا طول؟
وعلى من يحكم؟ على خلفاء القائد المظفر الفاتح الذي لم يطأ أرضَ المشرق قائدٌ أعظم منه، ولا أكثر ظفراً، ولا أعظم فتحاً، إسكندر العرب: قتيبة؟ ...... تتمة القصة غدا..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى