أحمد سالم عبيد.. ربيب السيف والقلم

> جنرال حرب بمعايير التمتع بمسئولية الجنرال تجاه قضايا الوطن، فالحرب هي آخر مطاف للسياسة وقد تكون الحرب سياسة بأساليب عنيفة، وقديما نبه الوالي الأموي على خراسان الشاعر نصر بن سيار إلى ذلك بقوله:

أرى بين الرماد وميض جمر

ويوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تذكى

وأن الحرب أولها كلام

أقول من التعجب ليت شعري

أإيقاظ أمية أم نيام

ويزيدنا شيخ العسكرية وكبيرها بيتا من الشعر حين يكون هو أحمد سالم عبيد ربيب السيف والقلم معا، والحالة نادرة في أسفار العسكرية العربية وإن كانت حاضرة في التاريخ.

فأحمد سالم عبيد يبعد أميالًا عن العماد مصطفى طلاس حين صنف طلاس في أنواع الزهور كتبا والجولان العربية السورية تحت حرب إسرائيل ولكن (بن عبيد) أقرب إلى أبي فراس الحمداني الذائد عن الحياض من غزوات الروم وفي قلبه عشق لا يخمد.

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة

ولكن مثلي لا يذاع له سر

يطوى الجنرال أحمد سبعة من عقود حياته الصاخبة محافظا على ثنائية متوازية ومتوازنة في ذاته الواحدة، ف (جل) حياته مترعة بأزيز الرصاص وبصوت الهاونات وضجيج المجنزرات وهدير المدفعية حتى الهبوط بالمظلات بين مخاطر محفوفة كرؤوس الشياطين.

واللحظات الساكنة هي استراق للأنفاس بين هذا الضجيج واستراحات محارب بين منعطف خطير ومنعطف، وبين حرب وحرب، ثم تأتي هذه العاطفة والكلمات الراقصة على عادة أهل لحج ممن ارتووا الدان من سيول وادي تبن، وتجد طريقها لفنان كبير هو محمد محسن عطروش لتغدو (الا ليه وا هاجري) و(بائع الفل في الشيخ عثمان) إطرابا يرقص الإنسان والجان معا.

لعل الهيئة الجسمانية للصغير أحمد -وهي هبة ربانية- قد لفتت انتباه الأستاذ المصري الثائر عزت مصطفى منصور ليضع الفتى الأسمر في قيادة فوج الكشافة المدرسي، وكأن المصري يقرأ طوالع الغد في وجه الوهطي أحمد.

كانت المدرسة (الجعفرية) بالوهط توأما للمدرسة (المحسنية) في الحوطة الجفارية، وعلى عهد الأستاذ عزت منتصف الخمسينيات من القرن الماضي كانت الجعفرية مشرعة الأبواب والنوافذ على رياح التغيير التي هبت على المنطقة من كل مكان، من القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد حتى موسكو.

ويسبق تلامذة عزت مصطفى منصور سني أعمارهم باستيعاب هذه المتغيرات قومية كانت أو ناصرية بعثية أو ماركسية في أبرز صورها الجاذبة: التحرر من الاستعمار والاشتراكية والوحدة العربية.

نتذكر من هذه الصفوة إلى جانب أحمد سالم عبيد: محمد عيدروس يحيى (العراشة)، عبدالرحمن حسن البصري، علي عبده همام، عبدالله بكير، محمد فضل (مطر)، سالم أحمد معدان، عيدروس علي عبدالرحمن، علي عوض قردش، علي عوض باعوين، عبده حيدرة عوض، محمد جعفر زين.. إلخ.

وقد سبقهم عمر الجاوي وأبوبكر السقاف وعمر سالم طرموم والأخير كان معلما بالمدرسة حين كان عزت مديرها إلى جانب الشاعر حسن علي حسن ومحمد صالح هنيدي وأحمد حسين سالم وآخرون.

نستشف أن كشافة الوهط في ذلك الوقت المبكر كانت غطاء للأستاذ المصري عزت ليدرع المناطق ويصورها طبوغرافيا لحاجة في نفسه ولحاجات تتمخض في أفق القادم على المنطقة، فمن (المفاليس) على حدود المتوكلية اليمنية إلى (عمران) اللحجية، التي الهمت الشاعر حسن علي أن يقول:

كشاف البلاد قاموا برحلة

وجابوا سمك من بحر عمران

وحتى أبين، بينما عيون الإنجليز تراقب ذلك مما يدعوها أخيرا أن توزع صور الثائر المصري الأستاذ عزت مصطفى في نقاط التفتيش في المستعمرة عدن ممهورة بكلمة (wanted).

واستفاد أحمد سالم عبيد من فرصة إكمال دراسته الثانوية في الكويت ومعه مجموعة من زملائه في المدرسة (الجعفرية) ممن جئنا على أسمائهم آنفا، ولم يكونوا هناك أبدا بعيدين عن تأثيرات الفكر القومي العربي كما يطرحه الأستاذ الأديب والشاعر أحمد السقاف بعيدا عن الحركية الملتزمة لبيروت وجورج حبش، وقريبا جدا من الفكر العروبي كما تقدمه قاهرة جمال عبدالناصر في ذلك الوقت.

ثم تكتمل حلقة تعليمه في الكلية الحربية بالقاهرة وكأنها استكمال لـ (الفباء) الجندية كما تلقاها في كشافة الوهط على يدي عزت مصطفى منصور.

وعندما يعود أحمد بعد إكماله الكلية الحربية كانت عدن تتهيأ للاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م.

وكانت المهام العسكرية والأمنية بنائية في الأساس لمؤسسة عسكرية عقائدية ترث الجيش الاتحادي الذي بنته بريطانيا في البلاد مذ فترة مبكرة من القرن العشرين، ويواكب هذا البناء الرؤية السياسية والأيدلوجية للدولة الجديدة.

وفي كل هذه المراحل كان أحمد سالم عبيد القائد العسكري مساهما في تلك العملية حتى تصل المؤسسة العسكرية والأمنية إلى مستواها المعروف كأفضل جيش في جنوب الجزيرة لديه القدرة -رغم صغر حجمه- على القيام بالعمليات الحربية الضاربة والمعقدة وفي الأوقات القياسية والعودة إلى ثكناته.

وتبوأ بن عبيد المواقع المتقدمة في الجيش مما حدا بهيئة الإذاعة البريطانية bbc أن تضعه العسكري الأول في الجنوب ردا على سؤال أحد مستمعيها في برنامج (أنت تسأل ونحن نجيب).

وعندما تضيق الحلقات في الجيش يذهب أحمد إلى وزارة الإعلام رغم حساسية هذه الوزارة ويحقق فيها ما حققه في الجيش.

ولم يكن السلك الدبلوماسي ببعيد عنه، وهو أحد الوسائل المعتمدة في بلدان العالم الثالث للتخلص من بعض الشخصيات بشكل ناعم بإبعادهم في وظيفة دبلوماسية خارج الوطن، فتقلد أحمد سالم مهاما دبلوماسية عليا في موسكو وأديس أبابا، وفي إثيوبيا استدعى المسؤولين في وزارة الخارجية بعد أحداث 13 يناير 1986م ليستلموا كل ما في السفارة من الألف إلى الياء (حتى منافض السجائر) ويغادر إلى صنعاء.

ولما يمتلكه من سمعة حسنة فقد كان أحمد في صنعاء ملتقى لأصدقائه وأحبابه من العسكريين والمدنيين على السواء ممن قذفتهم أحداث يناير المؤلمة إلى هناك أو من أهل صنعاء نفسها، وكان واحدا من المجموعة الأدبية والثقافية والسياسية التي تتقاطع مع النظام وعلى رأسها الأستاذ عمر الجاوي وأبوبكر السقاف وجمهرة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.

ورغم ذلك، كانت لقاءاته برأس النظام تتم بشكل دائم، ولم يعكرها سوى مجريات حرب العدوان على الجنوب في العام 1994م، حيث حارب في ظروف يعرفها الجميع وتنقل من هذا الموقع إلى ذاك قبل أن يرحل مع النزوح الكبير من أرض الجنوب في 7/ 7/ 1994م حاملا شهادة في جسمه عندما أصيب في الوهط، وهو يتصدى لعدوان صنعاء على الجنوب.

ويلاحقه النظام إلى القاهرة في عملية دنيئة ليقتاده إلى صنعاء أسيرا ويحتفظ به في غياهب سجن رهيب تحت الأرض في مسعى لإذلال هذا الرجل الشامخ والذي أرخص نفسه للوطن مذ زهرة شبابه، ونتيجة للحملة الشعبية التي قامت بها منظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب والكيانات المدنية في عدن وصنعاء والقاهرة، وكانت "الأيام" الغراء في طليعة هؤلاء، اضطر النظام إلى إطلاق سراحه ليلتحق مباشرة بالحراك الجنوبي الذي زاد تأثيره في الأوساط الجنوبية ليكون واحدا من قادته.

الجنرال أحمد سالم عبيد دمت بخير.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى