القائد السياسي القارئ للتاريخ د. صالح باصرة رحمه الله أنموذجا

> قليل من الناس من يجعل تاريخ وتجارب الشعوب منهجا لرسم خارطة التحول السياسي والفكري والثقافي، ليجعل من الحاضر الآني الذي لا يستطع التحكم فيه إلا بالجزء الممكن، منطلقًا لصنع ملامح المستقبل.

فقيدنا د. صالح علي باصرة، رحمه الله، أنا كاتب هذه السطور المتواضعة لست من معاصريه أو أصدقائه، لكني قارئ في تاريخيه، فحين وقفت أفتش في تاريخ جامعة عدن الحاضر الأليم، وجدت ذلك الرجل العملاق بتاريخه السياسي والوطني والأكاديمي والإنساني والفكري والنهضوي ماثلا أمامي، مما جعلني أستنهض هذا العملاق، إنصافا له فقلما نجد له مثيلا في هذا الزمن العقيم.

ففي البدء قبل أن أسرد موجزا من مناقبه العظيمة التي لا يتسع المجال هنا لذكرها، سأحكي موقفًا جمعني به في مقبرة القطيع، بينما كنت واقفًا بجانب سور المقبرة فإذا بي أرى رجلا يرتدي فوطة بيضاء وشالًا أسود يقف على أحد القبور، فاقتربت منه ولم أحكي معه فرأيته يبكي بكاء شديدا وهو يرفع يديه إلى السماء، في تلك اللحظة عرفته ولم أستطع الصبر، فاقتربت منه دون أن يشعر به ومن كثر بكائه بكيت معه، وعندما أحس بقربي منه ألتفت إلي وسلمت عليه فحاولت مواساته بطريقتي المتواضعة، في تلك اللحظة عرفت أنه كان واقفا على قبر فقيد الكلمة زميله وصديقه العزيز على نفسه، كما حدثني هو بذلك، الأستاذ المناضل هشام باشراحيل رحمة الله تغشاه، حينها أخذ بيدي وقال دعنا نذهب، فذهبنا معا إلى خارج المقبرة.

ومما تجلى لي من مواقف هذا الرجل، موقف إنساني آخر، حين وقع بين يدي ملف مرافعة عن قضية مسجد ومقبرة جوهر متضمنا رسالة موجهة للجهات المختصة في عدن مصحوبة بتوقيعه عندما كان رائدا لجامعة عدن، يدين ويستنكر الاعتداء الذي تعرض له مسجد ومقبرة جوهر التاريخيين من قبل ضعفاء النفوس، محملا الجهات مسؤولية الاعتداء على أبرز معالم عدن التاريخية، ولم يقف به الأمر هنا، بل أمر بتسوير المقبرة وصيانتها من العبث والاعتداء على حساب جامعة عدن.

نعم إنه رائد في كل شيء شغله، فهو الأكاديمي والإداري المسؤول الذي نهض بجامعة عدن في ظل التدمير الشامل والطمس الممنهج الذي تعرض الجنوب ومؤسساته، لقد وقف شامخا كالطود العظيم، ولم يسمح بالاقتراب من قدسية الجامعة، ففي عام 95م وهو العام الذي جاء بعد صيف 94م قاد جامعة عدن واستطاع أن يوصلها إلى مرحلة الريادة في الإدارة والقوانين والنظم والتعليم والبنية التحتية والتقنية.

أي رجل عظيم هذا؟ وهو في موقع السلطة يعلن أمام الملا في تقريره الشهير (باصرة + هلال) الذي سطر (16) نافذا من ناهبي الجنوب وفيه خير "صالح" بين المتنفذين وبين الوطن.

لا ننسى شهادته للتاريخ المعاصر عبر سلسلة من الحلقات على شاشة السعيدة الذي شخص ورسم ملامح القضية الجنوبية بكل أبعادها السياسية والحقوقية دون أن يخشى في الله لومة لائم.

وفي آخر أيام عمره أسس منتدى الرشيد الفكري التاريخي الثقافي الذي تمحورت معظم ندواته الفكرية عن قضية الجنوب أرضا وإنسانا.

لقد استطاع باصرة أن يحقق لقضية شعبه عبر حنكته السياسية وقراءته العميقة للتاريخ مالم تستطع تحقيقه أحزاب وقيادات أخرى في الساحة.

إنه العقل السياسي والإداري المحنك الذي يستشرف المستقبل مستفيدا من أدوات الحاضر، ليصل إلى ما يصبو إليه.

هل يا ترى أن الأمهات ستلد عظماء مثل هؤلاء؟

أستاذنا وقدوتنا رحمة الله تعالى تغشاك وسلاما على روحك الطاهرة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى