أمان.. ووشاح الشعر الغنائي

> فهمي غانم

> تختزن الذاكرة الجمعية العدنية تلك الأيام الخوالي للعصر الذهبي لمدينة عدن المحروسة حيث كان كل شيء يغني ويطرب ويشدو ويفرح ومن أرض الفرح هذه جاء الشاعر الغنائي المبدع والاديب والصحفي الأستاذ علي عبدالله جعفر أمان، ليبرز كرائد من روّاد الشعر الغنائي كشكل تعبيري جميل واتجاه نوعي وجد له خطا ثابتا في الحراك الثقافي ومستوى التطور الذي بلغه المجتمع آنذاك وارتدادات هذا الحراك بصورة إيجابية على الوضع الثقافي بشكل عام لذا نرى أن شعر أمان عمَّق الاتجاه الغنائي في الشعر وساعد على رسم خط بياني صاعد منذ ريعان الشباب فكان حدسه الملهم هو الذي جعل فنانا كبيرا مثل أحمد السنيدار يغني لأمان من مطالع وبدايات مؤلفاته الغنائية

ظالم شغل بالي

بعد الجفا والبين

مين بايشوف حالي

فين اشتكي به فين

لكم التُقطتْ أنغام المبدع لطفي جعفر تفاصيل الهاجس الاجتماعي وتلويناته العاطفية الذي سبر ذلك المزاج وتجلياته في بنية المجتمع حيث أفضى ذلك إلى ارتقاء الذائقة الفنية على وقع وصيرورة الحياة العامة، الأمر الذي جعل الأستاذ علي عبدالله أمان على موعد مع كبار الفنانين في عدن الذين التقطوا ما يبثه وهو الرائد حقا في ميدانه.

ومن ألحان وغناء الفنان الكبير محمد مرشد ناجي نقتطف هذه الكلمات الهامسة المعجونة بالدموع

يادموعي في الليالي

عشتُ وحدي في بكايا

لستُ أدري من أُنادي

وهو لي سرّ شقايا

لستُ أدري ماجرى لي

أيّ سرّ في الحنايا

وهذه لمسة جمالية أخرى لأغنية (فينك) التقطها الفنان الكبير أحمد بن أحمد قاسم من ترانيم الشاعر.

فينك وفين ساكن

ياحلو يافاتن

وكنتَ في قلبي

بين الحشا كانت

فينك

كان أمان، يداعب كلماته ويعانق حروفه بكل حميمية ويطلق منها صوت ضميره الداخلي المشبع بحالات الانفعال الوجداني فتبدو الكلمات كوميض خاص نشر نوره بالمكان والزمان فتجعلنا نفتتنُ بها أيُّما افتتان.

هنا لاينسد الافق أمام اللفظة لتبقى أسيرة محلّيتها بل إن الشاعر أمان يصعد بها إلى فضاءات جديدةٍ مسكونةٍ بريحها العطر ويوظفها توظيفاً سلساً فيرفقُ بها نحو وضع آخر تصبح فيها اللفظة على نحو آخر مموسقة طربية وأداة لإشاعة الفرح، كما هو واضح في قدرة الفنان الكبير محمد سعد عبدالله، الفنية ومزجه لكلمات الشاعر أمان بأوتار عوده وأحالها إلى لحن طبع فيه زمن عدن الجميل

ماله كذا طبعك

مش زي طبع الناس

يالي أنا أحبك

خايف عليك خايف

ليظلموك الناس

فالخط البياني الذي يربط الالفاظ والكلمات والتعابير هو خط بيني سليم يعكس توافقاً نفسياً مريحاً بين الشعر والشاعر، وهكذا يبدو أمان في توافق تام مع قافيته الشعرية ولوازمه الإبداعية فلا نتوءات ولاتضداد ولانشوز بينها ويبلغ الكلام حداً متوازناً فترتفع الحالة الذوقية مع مقاماتها الموسيقية لتخلقَ حالةً من النشّوةِ والألق والألفة والطرب اللحني الراقصِ الخفيف كوجبةٍ تريحُ أعصابنا فيسري أثرها في ذلك النوع من الخذر اللذيذ الذي تحس به وأنت تتأمل حالة الافتنان واختزالات النفس العاشقة للجمال في شعاب قصائده

هذه لفتة أخرى لعملية المدّ والجزر في شواطئ شعر المبدع أمان، فالشاعر هنا أشبه بصياد ماهر يحسن اصطياد نفائسه.

فأغنية (ريتك تجي ريتك) التي غناها الفنان الكبير ياسين فارع هي من كلام السهل الممتنع وقد ضخ فيها أمان حياة جديدة تمكن فيها أمان من استنطاق اللهجة المحلية وإخراج مافيها من معطيات قيمية وبث روح جديدة لها تعكس عنوانا لمرحلة غذت عدن ساحة للتنافس الشريف وأيقونة للفعل الإيجابي بتأثير الهواء النقي الذي تنفسته المدينة على كل المستويات

ريتك تجي ريتك

ياللي على بالي

من يوم ما حبيتك

غيّرت لي حالي

ياحلو راضيتك

ياحلو لاتخلف

في قلبي خبيتك

والأهل ماتعرف

لدى الأستاذ علي عبدالله أمان قدرة على تحريك مفاعيل الألفاظ وتحريك كوامنها وتفعيل معانيها باتجاه إحداث قدر من الدهشة والألفة مع النص حتى يغدو النص جزءً أصيلاً منا لا يعني الشاعر أكثر من أنه قائله فقط، فعندما نترنم ونغني أشعاره بعد ان تلبست بألحانها وقدمها فنانوا عدن بأرقى صورة وأحسن تقديم، تتموضع كلمات شعره الغنائي في إطاراتها الحسية والرمزية داخل المدرسة الرومانسية التي كانت بنت عصرها وعنوان لمرحلة زمنية كانت الريادة لها فكان أمان واحدا من قنوات الري لتيّار نهري عظيم طبع مرحلة الستينات بطابعه الخاص وامتدادا جميلاً لعمه الشاعر الكبير الفذ لطفي جعفر امان، فالألفاظ والتعابير والجمل الشعرية لاتتقولب في حجرها فهي تكاد تحمل نفس السياق وتتحّمل قدراً كبيراً من تبعات الاتجاه الرومانسي وإسقاطاته من حيث غزارة المعنى والعمارة الهيكلية للنّص وطراوة الألفاظ وترنيمات الهاجس الداخلي الذي يساكنه وحوار النفس المتأثرة بالفعل الشعري ومانثرته من شجن وهيام ووله وحنين إلى الطبيعة والبساطة كبساطة أهل عدن لكنها مشحونة بالعاطفة والروح الإيجابية وبذلك السحر الذي يملأ جغرافية عدن من بحرها إلى جبلها.

فأغنية ردي الجواب التي غناها الفنان الكبير خليل محمد خليل، فيها من البعد والعذاب التي تفصح عن ولعٍ رومانسي بهذه المدرسة

ردي الجواب

على الخطاب

شهر وسنة

طال العذاب

هذا حرام

خلي الخصام

قلبي يهيم

بعد الجواب

هكذا يبدو التعبير في كل أشعاره وأدبياته وكتاباته الأخرى يخرج من إطاره اللغوي البسيط الى أنساق ومآلات مجازية وصور بيانية تسبح في فضاءات مرحلة الخمسينات والستينات فتفعيل اللازمة الشعرية واللفظة الأدبية وجودة العبارة وإعادة تخليقها على نحو جديد يدل على مهارة واحترافية عالية فإطلاقها لا يتم وفقَ بالوناتٍ اختبارية محددة وإنّما هي استلهام لخواطره واستحضارا للحالة الإبداعية عموما.

كما يظهر المونولوج كلون جديد أخذ مساره في الحياة الأدبية وكحوار نفسي مع الذات وتنفيسا اجتماعيا وثمرة من ثمار الحالة الإبداعية أضافت نكهة فرائحية للمشهد الفني ودلالته، التقى الشاعر أمان بالفنان الكبير فؤاد الشريف في المنولوج الضاحك طفران ولابيسة.

طفران ولابيسة

وبيتي بالخيسة

لا ايركنديشن

إلا حمى النيسة

إعادة صياغة المفردات في سياقات أخرى وتوليد جديد لها بما يمكن أن نقول عنه تعدين الألفاظ كما نقول تمصير أو تعريب النص،

وفي مهارة أخرى وفي تجربة أخرى تدل على مهارة في إكساب الألفاظ وتحميلها شوق الهوى التقى الشاعر علي أمان بالفنان الكبير عبد الرحمن باجنيد، في أهل الهوى.

أهل الهوى ياهل الهوى

في حبكم قلبي انكوى

وان شي معكم لي دواء

جيبوه لي ياهل الهوى

إنّ تجربةَ الشاعر الثرية قد أتت أُكلها وأينعتْ ثمارها، وقد بنى الشاعر أمان من شعره أماناً ومصدات لحفظ مقام العبارة من أن تجرفها المحلية إلى قاعها فأبقى الشاعر على أصلها الجذري حتى تتلاءم مع إطارها الإبداعي الجديد فالحركة هنا ضرورية لضخ فعل شعري جديد في قاموس اللهجة فتحولها إلى وضع إشراقي تتغير صياغتها وفق متواليات إبداعية وأنغام طربية لها تأثيرها الخاص في وجدان المتلقي.

وضعَ الشاعر لنفسه منهجاً قاسٍ من خلاله اتجاهات واستبطانات الحالة الذوقية ومؤشراتها على صعيد الشعر الغنائي ودلّتْ بوصلته على أنَّ الإبداع الأدبي والفني في عدن في حالة صعود وارتقاء، وبالضرورة يقتضي الامر التماثل معها والارتفاع إلى سقفها ووفقاً لقاعدة الضرورة الإبداعية وتنوّع الأساليب الأدبية والثقافية والفنية فكان الأدب والشعر والشعر الغنائي خاصة في حالة من التنافس المحمود الذي وضعَ نقاطه البيضاء على مشهد بكامله ورسم حياة بانورامية تفاعلت معه الأنسجة الفنية للجسم الثقافي كله وقد سارت مسارات المبدع الفني علي أمان، نحو تجديد أدواته وتنويع خياراته الفنية حتى أصبح من فرسان الشعر الغنائي.

جيت ياحب

في وقت متأخر كثير

بعد ماوللا ربيعي والبقية

جيت ياحب

ايش في الدنيا يصير

مابقت وردة ولازهرة ندية

لو سالت الرمل

في صيرة سؤال

وللا حقات

ورمال بحر الغذير

انتَ باتسمع قصص

زي الخيال

عن غرامي عن حبايبي

شي كثير

الدموع جفّتْ

في عيني من زمان

والليالي والسهر

حتى الصباح

كلّها كانتْ

وكانَ الحبُّ وكان

مابقتْ منها

سوى ذكرى جراح

هنا التجربة الشخصية تطل علينا من الحروف وهي تجربة ثرية تحكي تاريخ منطقة سكنها الحب والوفاء ولم يغادرها.

الأستاذ علي عبدالله أمان هو أحد رواد الصحافة الفنية وصاحب ورئيس مجلة (أنغام) وهي مجلة فنية نوعية متخصصة صدرت في عام 1959م من المدينة الساحلية التواهي.

نستطيع القول أن وشاح الشعر قد تقلّده الشاعر الجميل علي عبدالله أمان، منذ ريعان شبابه في واقع متخم بفنون الإبداع والتجلي ولأن هاجسه وشاغله الأول كان في كيفية إحداث نهضة أدبية وشعرية وغنائية في عدن المحروسة وفي كيفية تأسيس وعي فني راقٍ قائم على أصول معرفية وذوقية وقواعد فنية أصيلة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى