غياب الثقافة.. حضور التطرف

> لعل أفضل تعريف لمفهوم الثقافة هو ما جاء في المعجم الفلسفي حيث نص على أنها "كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد او في المجتمع، وتشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه ولها طرق ونماذج عملية وفكرية وروحية ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر وهي عنوان المجتمعات البشرية".

وقالوا عندما يذهب كل شيء تبقى الثقافة، وهذا يدل على رسوخ الثقافة لدى الإنسان مهما كانت، لأنها قد استحالت إلى سلوك بل هي السلوك نفسه أي ما يحرك السلوك ويوجهه.

وفي هذا المقام نقصد بالثقافة ما يكتسبه المرء من معارف وقيم وأخلاق وعقيدة وفن وغيرها مما يشذب نفسه ويهذبها وينعكس ذلك على رؤيته للحياة ومن فيها وعلى سلوكه، والثقافة ليست مجرد كسب معلومات من هنا وهناك تبقى في حيز معين من الذاكرة معرضة للنسيان ولكنها ما أثر في الرؤية والسلوك، فقد يتحول العلم – مثلا- إلى ثقافة وقد ﻻ يتحول، اذكر في السنوات الأولى من دراستنا أنه كان هناك فرع من فروع مادة الدين يسمى(التهذيب) فهذا الفرع له علاقة مباشرة بالأخلاق والسلوك وليس مجرد حشو معلومات، لم نعد نسمع عن هذا الفرع السلوكي في مادة التربية الإسلامية وإن كانت مادته موجودة ولكنها صارت للاستظهار من أجل اﻻختبار واﻻمتحان.

إن الثقافة روافدها كثيرة ولكن هناك ثقافة إيجابية وثقافة سلبية، وثقافة فطرية وثقافة مكتسبة وقد تتنازع الثقافات المختلفة هذا الفرد أو ذاك وهذا المجتمع أو ذلك.

أما عدن في الأصل فإنها مدينة عرفت بالثقافة الإنسانية واﻻعتدال والتوسط ونبذ العنف والتعايش، وقد عرفت المكتبات والصحف والتعليم والتخطيط والطباعة والإذاعة والتلفزيون والرياضة والقضاء والفن والنقابات العمالية والنوادي الأدبية والثقافية وغير ذلك قبل كثير من المدن العربية، وتسربت إليها عبر البحر ثقافات مختلفة، كثير من الأجيال المثقفة المتعلمة تعاقبت في حياة هذه المدينة، فلم تكن النهضة الثقافية الحديثة طارئة عليها، هذه الأجيال كانت تقرأ وتقرأ إلى حد الإدمان ولم تدمن على الحشيش ولم يكن القات عندها هو الحاكم الأول على حد قول الزبيري(القات هو الحاكم الأول في اليمن).

القراءة هي النافذة التي يطل المرء من خلالها على العالم وعلى نفسه، فهل سدت هذه النافذة عند أجيال اليوم واستبدل بها نوافذ أخرى واسعة ومفتوحة ولكنه يتيه فيها، بحيث ينسى المرء من خلالها نفسه ومحيطه وخصوصيته الثقافية، ﻻسيما من ﻻ يجيد التعامل معها مثل شبكة الإنترنت وشبكة التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية وغيرها.

ومهما يكن فلا يزال الكتاب هو الصديق الصدوق ولكنه صديق صامت حتى تستنطقه أجيال اليوم، لا تقرأ و ﻻ تكتب بشكل سليم، قد تكون أكثر ذكاء من الأجيال السابقة ولكن ثقافتها ضعيفة واستهلاكية بوجه عام، والمشكلة أن هذه الأجيال تواجه تحديات أكبر ومغريات أعظم وواقعا أسوأ ممن سبقها من الأجيال فضلا عن حالة اﻻغتراب والغفلة بين الأجيال.

الثقافة المتزنة ثقافة الكتاب والتربية السوية ﻻ تقود إلى التطرف بكل أشكاله، ﻻ عند الشباب وﻻعند غيرهم، لأن الثقافة تنمي العقل، والتجارب التي تأتي من خلال الثقافة تمنح صاحبها حصانة ومنعة من الوقوع في سبل اﻻنحراف الفكري والسلوكي والعقدي، يقول العقاد ما معناه: إنني حين استكثر من قراءة الكتب ﻻ يدل ذلك على أنني زاهد في الحياة ولكني أطمع في أن أعيش أكثر من حياة من خلال تجارب الآخرين التي أقرأها لأنني أعيشها.

القراءة تزيد الصقل والعقل والأخير سلطان الإنسان، وحين تضمر العقول تنشط الأهواء ويقع المحذور.

كان أستاذنا المرحوم الراحل عبدالله فاضل فارع ابن هذه المدينة يردد فينا دائما أن الطالب الذي يكمل الثانوية العامة بحق، ناجحا من غير أي شبهة أو شائبة، وفاهما لما تلقى خلال سنوات تعليمه، هو طالب ﻻ يخشى عليه بعد ذلك في مسيرة حياته، ولكن من أين لنا ذلك في هذا الزمن الذي أسس على الغش من أول يوم!

فمن يتزود من العلوم الإسلامية ويقرأ في التاريخ والجغرافيا ويطلع على كتب الأدب والشعر ويسمع الموسيقى من غير شطط و ﻻ شعور بالذنب فإنه يبعد عن التطرف بكل تأكيد، كل هذه الروافد الثقافية ﻻ تمد المرء بالوعي والسلوك فحسب ولكنها كذلك تنتزع من داخله رواسب أي شعور سلبي أو مبالغ فيه أو نزعات مكبوتة وفق نظرية أرسطو في التطهير.

لقد جبلت هذه المدينة على الرحمة والتراحم والعدل واﻻعتدال وعلى الثقافة والتثقيف وعلى التحضر وعلى الشعور بالبهجة والفرح وعدم الاستسلام للحزن والمصائب والمصاعب، وقد سميت قديما عند بعض الأمم ببلاد البهجة والفرح، ولكن أمورا طرأت ونوازل استجدت حديثا على هذه المدينة الاستثنائية التي تعد قلب الجنوب النابض، وبعض ما حوله فكان الهجوم العالمي عليها وعلى غيرها من مدن الإسلام بوكلاء محليين مما يجعل الثقافة الأصيلة هي آخر معقل لنا أمام الرايات السوداء القادمة من وراء البحار والمحيطات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى