اليمن أسوأ مكان لقتل البراءة "لماذا تتنامى عمالة الأطفال؟"

> تقرير/سامية الأغبري:

> ظاهرة تشغيل الأطفال في اليمن ليست وليدة اليوم، ولا هي وليدة سنوات الحرب. تشغيل الأطفال ظاهرة قديمة، بيد أن الحرب والانهيار الاقتصادي وفقدان الوظائف والنزوح وتوقف دفع مرتبات الموظفين، أسباب فاقمت من هذه الظاهرة.
تغيب الإحصائيات الدقيقة (سواء رسمية أو غير رسمية) حول عدد الأطفال العاملين في اليمن، عدا تقرير صادر عن منظمة العمل، أواخر 2012، أفاد بأن "عدد الأطفال العاملين في الجمهورية اليمنية 1.6 مليون طفل عامل. ومهم الإشارة إلى أن المسح الوطني جرى تنفيذه في 2010، أي قبل الحرب بـ12 سنة، فلنا تخيل عدد العاملين اليوم من الأطفال.


تطبيع الفقر

بعضهم حفاة وبملابس رثة، يعملون في بيئة غير آمنة، وتحت ظروف قاسية، وفي مهنٍ كبيرة وخطرة. تجدهم في الحقول وفي ورش النجارة والحدادة وإصلاح السيارات، محاسبين على وسائل النقل، وباعة على أرصفة الشوارع، في مكبات النفايات يبحثون عما يمكن بيعه من أجل وجبة طعام، عاملات منازل، وعمال بناء، بدل حقائبهم المدرسية وألعابهم، يحملون طينًا وحجرًا وأسمنتًا، وثقل المسؤولية.
تركوا مدارسهم قسرًا للالتحاق بسوق العمل ومهن يتعرضون فيها لمخاطر شتى: الموت، الإصابات، الضرب، التحرش والاستغلال الجنسي، إضافة إلى المخاطر النفسية، كل ذلك مقابل مبلغ زهيد من النقود أو وجبة طعام. هي ليست صورة من مشهد في فيلم تراجيدي، تلك صورة البلاد الحقيقية وواقع الأطفال، الأكثر بشاعة وقسوة مما ينقله الإعلام.

"اليمن هو أسوأ مكان للأطفال في العالم"، بهذه العبارة اختصرت منظمة اليونيسف، في العام 2017، مأساة أطفال البلاد. طيلة فترة بقائي في اليمن، صادفت عددًا كبيرًا من هؤلاء البؤساء والمعدمين، في كل الشوارع وفي الأزقة والأسواق والأرياف. وفي كل مرة تتراءى أمامي وجوه أولئك الفقراء المسحوقين التي تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، مرفقة بالإكليشة المعتادة “فقراء لكنهم سعداء، أو لا يملك المال لكنه يملك السعادة، فقيرة لكنها جميلة”.

ثم تمر أمامي صورة الصبي ذي الابتسامة الباهتة، التقطت صورة له قبل سنوات أثناء ما كان يقوم بتجميع قناني مياه فارغة في مكب نفايات. صبي مشرد، محروم من أبسط حقوقه، حقه في الحياة الكريمة، في التعليم والصحة والأمان، ملامحه ونظراته وهيئته وملابسه ووجوده في مكب النفايات (الصورة) تتحدث عن حجم المأساة التي يعيشها، وبرغم ذلك تداول البعض صورته مرفقة بالعبارة المذكورة آنفًا.

يبتسم، إذن هو سعيد

ثقافة تمجيد الفقر هي محاولة الأنظمة الاستبدادية الفاسدة وشركائها من الأغنياء ورجال الدين، تكريسها وتطبيع الفقر، يستسلم الفقير لوضعه ويتقبله (خلق الله الفقراء وخلق الأغنياء)، إذن، الثقافة التي يراد تكريسها هي أن فقرهم ليس بسبب غياب العدالة الاجتماعية وغياب التوزيع العادل للثروات، ليس بسبب فساد السلطة، بل قدر إلهي محتوم، وعليهم -أي الفقراء- كمؤمنين بالقدر، الخضوع لإرادة الله، وبالطبع عوضهم الجنة التي وعدوا بها "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء"، حديث نبوي.


يخدعون الفقراء

أراد رجل كان يجلس على كرسي خلفي في الحافلة، إسكات طفل في حضنه يبكي ويصرخ، يريد لعبة كلعبة صديقه "شوف عماد بايدخل النار لأنه غني، إحنا الله بايعوضنا في الجنة، وبايكون معك ألعاب كثيرة أحسن من حق عماد"، لكن الطفل استمر بالبكاء، يريد لعبة كلعبة عماد.
في تقريرها الصادر يوليو من العام الماضي، أشارت منظمة اليونيسف إلى أن "الأطفال هم أول ضحايا الانهيار الاقتصادي في اليمن، وازدياد حدة الفقر". وبحسب المنظمة، فإن "نصف السكان كانوا في 2014 يعيشون تحت خط الفقر"، مؤكدة "ارتفاع معدلات الفقر إلى حوالي 80 %، حيث يعيش 8 أطفال من بين كل 10 أطفال، لدى أسر ليس لديها دخل كافٍ لتلبية الاحتياجات الأساسية".

وحذرت من أن توقف العملية التعليمية في المدارس، يعرض الأطفال أكثر لمخاطر العمالة أو الالتحاق بالجماعات المسلحة. صحيح أن توقف العملية التعليمية، أحد أسباب عمالة وتجنيد الأطفال، غير أن حرمان الأطفال من التعليم أو تسربهم من الفصول الدراسية والبحث عن فرص عمل، والذهاب إلى جبهات القتال، يعود في الأساس إلى الفقر.

طفولة مهدرة على الطرقات

"بلس يا عم، تشتي بلس؟". يبدو هذا الطفل في العاشرة من عمره، يحمل بين يديه كيسين من البلس (التين الشائع) عرضه على السائق الذي كنت أجلس بجواره على المقعد الأمامي، في طريقنا من مدينة التربة إلى مدينة تعز. اتجه الطفل إليَّ ليعرض عليَّ: تريدين بلس يا خالة؟". كانت الأتربة عالقة على وجهه ويديه وشعره، غبار خلفته على جسده المركبات العابرة من هنا.
 سألته: هل تذهب إلى المدرسة؟
"نعم، أنا دائمًا من الأوائل"، جاوب بفخر ممزوجًا بابتسامة خجلى.
عيناه حمراوان، يضع الكيسين بيد واحدة ويفركهما بالأخرى، ترى في هاتين العينين مأساة ملايين أطفال هذا البلد، مأساة جيل بأكمله سحقته الحرب بدون رحمة. على جانبي الطريق وأنت خارج من التربة أو داخل إليها، ستصادف أطفالًا (ذكورًا وإناثًا) واقفين أو جالسين ينتظرون مرور مركبة يهرولون نحوها، يعرضون على السائق والركاب، قات ًا أو قناني ماء باردة وجبنًا بلدي ًا أو فواكه موسمية، ربما تزرع في أرضهم، أو قد يكونون مجرد باعة لثمار

أرض مملوكة لآخرين

أسفل "هيجة العبد" باتجاه محافظة عدن، الطقس ظهيرة أمس حار جدًا وخانق، كانت شمس الصيف ترمي أشعتها الحارقة على جبين وعيني طفل صغير، حبات عرق صغيرة تتلألأ على جبينه، يمسحها بكم قميصه لتعود مجددًا، يحمل في يد جالون ماء بلاستيكيًا صغيرًا، وفي الأخرى قنينة ماء، قطع نصفها وحوله إلى إناءٍ يمده للعابرين، علّ مسافر ًا ظمآن ًيشتري منه.

لفتت دراسة أعدتها العام 2019، عدد من المنظمات، بتكليف من الجامعة العربية والمجلس العربي للطفولة، بعنوان “عمل الأطفال في المنطقة العربية: تحليل كمي ونوعي” إلى عدد من المخاطر التي يتعرض لها الأطفال العاملون، منها: “الأعمال التي تنطوي على استخدام الآلات الحادة والمعدات الخطرة، والعمل في بيئة مناخية قاسية، والعمل بالمواد المتفجرة والكيميائية، منها المبيدات الزراعية السامة، إضافة إلى العمل في الفنادق والملاهي الليلية”.
وأوضحت الدراسة أن تزايد عدد الأطفال العاملين في اليمن وعدد من الدول العربية، جاء بسبب النزاع والتدهور الاقتصادي والنزوح.

على كرسي في أحد مراكز التسوق التجارية بعدن، جلست امرأة، وبجوارها طفل في الخامسة من عمره، حذاؤها ممزق، تحاول بخجل إخفائه بعباءتها الرثة، تنظر إلى النساء في أحد محلات بيع العباءات، ربما تمنت اقتناء عباءة جديدة، لكن أنّى لها ذلك وهي الفقيرة المعدمة. جلست إلى جوارها، وحتى أكسر حاجز الصمت، بادرت بالكلام، وسألتها: هذا ابنك؟ نعم. ثم باختصار روت لي قصتها: "لدي طفل يقوم ببيع المناديل في الشارع، وأنا أعمل أحيانًا في البيوت"، واصلت: كان في الصف الرابع حين مات أبوه قبل عامين.

أردفت: تخلى عنا أعمامه، ولم يسألوا حتى عن ابن شقيقهم، أنا يتيمة وإخوتي فقراء. ترك الصبي المدرسة للمساعدة في إعالة والدته وشقيقه الأصغر. قالت بحزنٍ: "ما الذي يمكنني فعله؟ ترك المدرسة غصبًا عني، لا أستطيع تحمل مصاريف المدرسة، نحن بالكاد نستطيع توفير ما نأكله، إذا تحسن الوضع "إن شاء الله نعوض بأخيه"، مشيرة إلى الصغير الجالس بجوارها.

صوت الجوع

يتمتع الأطفال في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بالحماية من كافة أشكال الاستغلال، منها الاستغلال الاقتصادي، كذلك في القوانين الوطنية، مع وجود ثغرات قانونية في عدد من مواد القوانين اليمنية، منها مواد تتعارض مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المصادقة عليها اليمن، ومواد فضفاضة قابلة لأكثر من تفسير. في مادته الـ48، يحظر قانون العمل تشغيل الأطفال في مناطق نائية وأعمال خطرة وشاقة، غير أنه أعطى وزير العمل الحق في تحديد الأعمال والأماكن الخطرة على الأحداث. وعلى علّات مواد القوانين، إلا أنها لم تنفذ حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية.
ما يسري على الفقراء هو قوانين الأقوياء والأغنياء، فحين ترتفع أصوات البطون الخاوية، تخرس كل القوانين والتشريعات، فإما العمل وفق قوانين وشروط رب العمل مهما كانت قاسية ومخالفة للقوانين، أو الموت جوعًا.


أحلام صغيرة مؤجلة

أحلامهم الخبيئة خلف قسمات وجوههم وبقايا أمنيات، يرون من المحال تحقيقها، لأنهم أبناء الفقراء، والفقراء لا مكان يتسع حتى لأحلامهم. أحلام بسيطة، حقيبة مدرسية وغذاء ومسكن آمن، ولا بأس في ألعاب وحديقة. هي أحلام الصغار المولودين في زمن الحرب، الآتين من عشش المعدمين ومن مخيمات النزوح والحارات الفقيرة، من مدن غير مدنهم وقرى غير قراهم، ولدوا وكبروا وهم لا يرون أمامهم غير هذا الخراب الكبير، والدم والأشلاء، ومدن وبيوت مدمرة وحياة المخيمات، لا يسمعون غير أصوات المدافع والطائرات والصواريخ والقذائف.
خلف قسمات وجوههم بعضها مليئة بالندوب، ووراء ابتسامات حزينة، في أيدٍ صغيرة مجروحة ومشققة، ملطخة بزيوت السيارات وطين الأرض، قصص أليمة تكتب بدماء وعرق ودموع الصغار تحكي ما فعلت بهم الحرب.

"المشاهد"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى