​الهوية المغدورة

>
لم نقرأ في التاريخ عن غدر تعرض له وطن وشعب وهوية وتاريخ كما تعرض له الجنوب العربي، ولا زال نفر من أبناء الجنوب العربي يمعنون في الغدر بوطنهم وبهويتهم وبمصير شعبهم بنفس خناجر الغدر التي ذهبت بالجنوب العربي إلى حيت ألقت برحلها أم قشعم.

يستند هؤلاء في ما يكتبونه إلى ما يتوهمون أنه تاريخ، مع أننا نعلم  وهم يعلمون أن القصاصات الورقية المتبقية في (المقر) تحوي تاريخ مزور كتبه المنتصر، تسقط منه وريقات الطرف المهزوم بعد كل دورة صراع من تلك الصراعات التي عصفت بالجنوب منذ ما قبل الاستقلال عن بريطانيا حتى اليوم، حتى إن أحدنا يصاب بالدهشة والضحك معا حين يقول أحدهم إنه عاد للبحث في التاريخ الحديث، يشعرك بأنه عاد إلى (دائرة المعارف البريطانية).

لو تفحص هؤلاء (المستكتبون) كتاب التربية الوطنية في مناهج سلطة 1994م التي جاءت بعد احتلال الجنوب لوجدوا أن التسمية التي تم إطلاقها على الرئيس البيض ورفاقه هي قوى الردة والانفصال، وهي تسمية أطلقت على كل جنوبي فيما بعد، مع أن أبناء الجنوب هم من ذهب إلى الوحدة، ولم تخلو وثائق حكام صنعاء من وصف الرئيس هادي بالخائن مع أنه من سلم الجنوب لعفاش ليقوم بصرفه كأراضي لأصحابه ومحازبيه بالكيلومترات، الغريب أنهم لا يطلقون أي إساءة لأي من وقف مع هادي من العربية اليمنية.

أما وريقات تاريخ الجنوب فحدث ولا حرج، فقد أصبح الرئيس قحطان الشعبي يمين رجعي والرئيس سالمين يسار انتهازي والرئيس علي ناصر يمين انتهازي وأصبحنا بالنتيجة طغمة وزمرة، وتم طمس ذكر كل هؤلاء من التاريخ الحكومي في الجنوب بما في ذلك باقي القوى الوطنية الجنوبية كحزب رابطة الجنوب العربي وجبهة التحرير وغيرهما الكثير من القوى والشخصيات الجنوبية، حتى سلاطين الجنوب، تم نزع رداء وطنيتهم وإلباسهم صفات لم تكن فيهم يوما، فعن أي تاريخ تتحدثون؟ وفي أي تاريخ تبحثون؟.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد حدث لغط وتباين في الرؤى خلال الحديث عن آخر ذكرى عشناها لثورة 14 أكتوبر، وبرزت بعض الآراء تصدح من لندن دفاعا عن ثورة أكتوبر، وهو حدث وطني لم يكن معلقا أو لقيطا، بل كان امتداد لحركة وطنية جنوبية ضد الاحتلال لم تتوقف، ومع ذلك فقد علقت مازحا على صديقي المناضل اللندني (طردتم بريطانيا وذهبتم للعيش عندها).

عود على بدء، لو رجع زملاءنا المسكونون باليمننة إلى تاريخ ما قبل التزوير لوجدوا أن الاحتلال البريطاني كان يمنع الحزبية والأحزاب في حين يسمح بتأسيس الجمعيات لذلك سميت رابطة الجنوب العربي تحايلا على القوانين السارية كي لا يتم حظر نشاطها.
وقد عدنا إلى من عاصروا تلك الأحداث والحقب التاريخية فتبين لنا أن هناك من ألف أكاذيب وحكايات لا أساس لها بقصد إثبات وقائع لا تخلو من التزوير، فبعضها أعلن عن نفسه بعد أن حدد المستعمر موعد الاستقلال وانسحابه من الجنوب العربي.

ولم يكن لأي رابطي علاقة بالجبهة القومية عدا الرئيس قحطان الشعبي أما الباقون فكانوا من حركة القوميين العرب التي كان يقودها رموز من الشام والتحق بهم الشهيد فيصل الشعبي وسلطان أحمد عمر وغيرهما من الطلبة ليس فيهم أي رابطي أما الرئيس قحطان الشعبي ولقرابته بالشهيد فيصل عبد اللطيف ولأسباب أخرى، تم تعاونه مع حركة القوميين العرب، ودعمتها مصر ثم تخلت عنها وتم تأسيس جبهة التحرير من بعض عناصر الجبهة القومية وآخرين.

الصوفية والسادة في حضرموت أصلا ضد أن يكون لهم شراكة أو تأسيس لسلطة، ومن ناضلوا منهم في العمل الوطني أساسا كان لأداء واجب ضد مستعمر محتل وليس طمعا في سلطة.
مؤسسوا الرابطة كان محمد علي الجفري وحسين الحبشي وليس شيخان الذي التحق بالرابطة بعد التأسيس وكان أساسا بعثيا ولا علاقة له بحركة  1948 في صنعاء، وكان من السادة سالم الصافي والباقون مثل الأمين العام الاسبق الأستاذ رشيد الحريري والأستاذ أحمد عبده حمزة وعبدالرحمن جرجرة عليهم رحمات الله وآخرين كثر، هم وطنيون من مختلف مناطق الجنوب العربي.

وقيادات الرابطة كانوا منفيين من قبل الاستعمار وهم الوحيدون الذين تم نفيهم رسميا وعلى رأسهم المؤسس محمد علي الجفري رئيس الرابطة وأمينها العام  شيخان الحبشي والسلطان علي عبدالكريم والشيخ محمد أبوبكر بن فريد والأستاذ أحمد بافقيه وآخرين.
لم يسمي الاستعمار الجنوب بالجنوب العربي إلا عام 1959م أما ما قبل ذلك فقد منع الاستعمار اسم  الجنوب العربي بل وأقفل صحيفة الجنوب العربي التي كان يرأسها الأستاذ أحمد عمر بافقيه.

وحزب الرابطة هو من قدم قضية الجنوب العربي إلى الأمم المتحدة مبكرا منذ 1959 وهو يعمل لذلك، وحصل على قراراتها باستقلال الجنوب العربي وتقرير مصيره في يوليو 1963م أي قبل إعلان تأسيس الجبهة القومية في مارس 1964م.

ولم يكن استشهاد راجح بن غالب لبوزة إلا استمرار لنضال شعب وليس بداية له، وكانت مناطق كثيرة في الجنوب العربي قامت وتقوم بنضال مماثل من عشرات السنين وتعرض بعضها لقصف الطيران البريطاني وبعض آثار هذا القصف لازالت موجودة حتى اليوم، وبيوت قيادات في الرابطة مدمرة منذ الخمسينات.

وأما الشباب من الجبهتين القومية والتحرير فقد قدموا أرواحهم للجنوب عن صدق ولم يكونوا يعلمون أن موعد الاستقلال قد تحدد، ورغم ذلك تم تقديم الموعد 40 يوم من 9 يناير 1968 إلى 30 نوفمبر1967، وتم التنازل عن وعد بريطانيا بتقديم 60 مليون جنيه إسترليني للجنوب عند استقلاله على ثلاث دفعات، ويقول الإنجليز في مذكراتهم أنهم قدموا دعم نقدي، ونحن سنصدق ما يقوله قيادات الجبهة القومية.

اليمننة ليست نقيصة، كما أن الهوية الجنوبية العربية ليست عيبا أو ابتكارا طارئ، هي هوية ضاربة في عمق التاريخ، بل هي سابقة لليمن السياسي الذي أعلن في 1918م باسم المملكة المتوكلية اليمنية ولم يكن الجنوب العربي جزءا منها بطبيعة الحال.

طمع الآخرون في الجنوب العربي لم يكن وليد 1967م بل كان منذ أيام الإمامة وقد صد أبناء الجنوب الكثير من الغزوات، ربما أن تشرذم الجنوب العربي في سلطنات ومشيخات عزز هذا الطمع، وربما أن ما يشهده الجنوب من نزعات التشرذم سيحيي تلك الأطماع مرة أخرى إذا نجح التشرذم الذي يدفع به أعداء الجنوب العربي.

نحن جزء من اليمن متعدد الهويات كما الحال في الشام، ولم يجرؤ أي طرف أن يتعدى على هوية الآخر أو ينتقص منها أو يدعي أن الآخر مجرد دخيل إلا فيما يخص الجنوب العربي فقط، فتارة يقال إننا بقايا هنود وصومال، وتارة أننا فرع عاد إلى الأصل، وهو قول يتعدى على طبائع الأشياء، فمن كان يدافع عن الجنوب العربي طوال التاريخ هم أبناء الجنوب العربي، ولا يمكن للفرع أن يكون أكبر وأعمق تاريخا من ذلكم الأصل الطارئ على التاريخ والجغرافيا.

واقع الحال أن غياب الوازع الوطني لدى السياسي والمثقف والكاتب يحوله إلى مجرد طبال يبحث عن تكسب أو مصلحة ذاتية على حساب مصير وطن ومستقبل أجيال.
عدن
25 أكتوبر 2022م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى