باللهجة العدنية.. مسرحية هاملت في المجلس التشريعي

> مرة أخرى تفشل السلطات الرسمية في تقديم عدن في أجمل صورها، ويجدد عمرو جمال ورجاله العهد لعدن وينتصرون لها، ويقدمون مدينتهم "عدن" طائر الفينيق، تنهض من وسط الركام، وتصور نفسها للعالم من خلال مخزونها التاريخي وعبق الماضي وشموخ الموقع الذي جعلها في عيون العالم هدفا استراتيجيا يتصارع عند أقدامها المتنافسون، وتعزز ديمومتها وتجدد أصالتها التاريخية، فيما تتوارى الأطر السياسية والإدارية والثقافية عاجزة عن قراءة مهامها وواجباتها تجاه هذه المدينة، كما تضمنته قوانين البلاد ولوائحها، مؤكدة عجزها وخذلانها لهذه المدينة المعطاءة السمحاء التي مازالت أضرار حرب 2015 تنكى جراحها، فيما أصبح انتهاك الموروث الثقافي والبيئي لعدن "سمة الحاضر". سوء الخدمات بشكل عام عناوين مستديمة على صفحات تاريخها المعاصر في مدينة عرفت الخدمات العامة منذ وقت مبكر.

من عبق التاريخ اختار عمرو ورجاله الشباب قوة لهم، وكانت اللهجة العدنية مصدر إلهامهم، تلك اللهجة العريقة الضالعة في مصادرها والساكنة في جذروها الدينية والعربية والمتواصلة مع لغات الأعراق والأجناس التي تعايشت وتزاوجت وتلاحمت مع ثقافات العالم المحب لهذه المدينة صانعة عصارة لهذا التلاحم الفريد على أرض عدن المتأصل في كسمبوليتينية عدن.

وعندما أختار عمرو جمال اللهجة العدنية وسيلة ترجمة وتواصل وأداة تعريف بموضوع مسرحية "هاملت" كان قوي الإيمان بأن اللهجة العدنية طيعة ومستوعبة لمضامينها، وتعكس بثقة العلاقة البشرية المتمثلة على أرضها، وتستقي هذه القدرات من عروقها ومصادرها التي لا ينكرها العلماء، ويوم تتمكن اللهجة العدنية من هذا الإبداع اللغوي فأنها ستكون لنا مصدر فخر مضاعف يضاف إلى ما حبا الله عدن من آيات وصفات لا تنكر، بل ستفتح أمامنا، نحن الباحثين المحبين لها مصادر بحث ودراسات متعددة ومطالبات جادة بالاهتمام بها.

اختار عمرو ورجاله المجلس التشريعي مكانا للعرض، واجتهدوا في تهيئة المكان، وأعادوا له اعتباره، بعد أن أنهكته آليات التجاهل الرسمي وأساليب البسط والعشوائية المحيطة به حتى وصلت إلى ما هو عليه من بسط وتغيير للهيئة التاريخية لهذا المبنى، ويعتبر المجلس التشريعي أول موقع القوات البريطاني التي وصلوا إليها بعد أن أكملوا مهمة احتلال عدن في 19 يناير 1839، وفي عام 1871 شيدت الإدارة البريطانية كنيسة للجنود البريطانيين على رأس الهضبة المشرفة على صيرة والبر العدني، وأسمت هذه الكنيسة "سانت ماري جاريسن".

لا ينتهي الحديث عن المبنى عند هذا البناء، لكن فيما تعاقب عليها من أحداث وحضور وطني ومحطات تاريخية فاصلة في تاريخ عدن لو كانوا يعلمون، فقد أصبحت هذه الكنيسة أول برلمان لعدن، وذلك بعد انتقال إدارة مستعمرة عدن إلى إدارة وزارة المستعمرات البريطانية في عام 1937، وبسبب هذا الانتقال أصبحت عدن "مستعمرة بريطانية" تغيرت نهج الإدارة البريطانية لهذه المدينة ومنها "التحديث الإداري والقانوني"، وكنتيجة لذلك في عام 1947 أنشأت بريطانيا أول برلمان لعدن، وأصبحت هذه الكنيسة مقرا للمجلس التسريعي لعدن، ومن أضابير هذا المجلس وأجنداته خرج قانون التعليم للمواطنين العدنيين من الجنسين، وقانون الصحافة وقوانين العمل والخدمة المدنية وغيرها وتأسيس الأحزاب.

أصدرت بريطانيا في عام 1959 "سياسة العدننة " التي كانت نهجا إداريا في توطين أبناء عدن في التأهيل والتدريب وشغل الوظائف الحكومية للمواطنين العدنيين.

اختار عمرو ورجاله للمجلس التشريعي موقعا لعرض مسرحيته، قاصدا من وراء ذلك أن عدن دون غيرها من المدن هي متحف متعدد الملامح لتعاقب التراث الثقافي الإنساني، تجسد على أرضها مكونات الموروث الثقافي القديم، الإسلامي، والدويلات الإسلامية المتعاقبة، وموروث الإدارة البريطانية في أثناء حكمها لمدينة عدن، وعلى الرغم من قيمة هذا الموروث فإن هناك قطيعة تامة بين هذه المعالم وآليات صون وتوظيف استثمار هذا الموروث واعتباره مصدرا تعليما، تنمويا، وثقافيا، وامتدت هذه القطيعة لتشمل قطيعة تامة بين المعالم ومنهج التخطيط الحضري في مدن محافظة عدن، بصورة يثبت النهج الحضري في التخطيط المتصل بهوية المدينة، ويعزز القيمة التراثية ويدعمها في توظيف ثقافي بديع يبرز مكانة المعالم وقيمتها الثقافية ودورها في التنمية.

لقد أحسن عمرو جمال هذا التوظيف الثقافي للمعلم، وهو سلوك كان مشهودا في التاريخ القريب لعدن قبل 1990م، على الرغم من أن سنوات النظام الوطني 1967 - 1990م كانت قد شهدت انتظاما ملحوظا بالحضور الثقافي في المواقع التاريخ، على غرار حفلات ومحاضرات وزارة الثقافة في الصهاريج أو استراحة أروى عندما كانت الصهاريج، وبوابة الأمير ويلز في ميناء عدن وغيرها ساحة للإثراء الثقافي الذي تديره وقتها أطراف متعددة، وكأن هؤلاء الشباب يرفعون من هذا المجلس دعوة للجهات المعنية.

بين ليلة وضحاها يتحول المجلس التشريعي إلى نبراس ثقافي يضيئ سماء عدن، بعد أن أصبح هذا المجلس موقعا للعبث والتشويه والبسط به وبمحيطه الممتد باتجاه العقبة وجبالها المشرفة على ساحة البنوك، بعد تمّ تحويل الجبال المحيطة بالمجلس التشريعي إلى مستوطنة عشوائية، مع العلم أن قلاعا تاريخية في هذا الجبال قد تم البسط عليها دون تحرك مسؤول، ويعد هذا الاستخدام من قبل عمرو وشبابه نوعا من التوظيف الحضري للمعلم من خلال نشاط ثقافي يرتبط بمضمون المجلس التشريعي، متمنية أن يستوعب ذوو القرار مضمون التوظيف الحضري للمعالم ومصادرها التنموية، والساحات المتصلة بها لتصبح مزارات ثقافية سياحية ترفيهية ذات صلة بتاريخية المدينة، ولا تشكل اعتداء صارخا لها، وذلك من خلال ما نشهده في عدن من تدخلات لا تمت بصلة لتاريخية عدن ولا تحترمها.

شكرا عمرو ورجاله فقد أحسنتهم استخدام الموروث الثقافي فيما تجدد الكبار عن فهم خصوصية عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى