آخر الفلاسفة العظام بعد ابن رشد.. أبوبكر السقاف.. وداعا

> أشرقت شمس لحج من عدن كما قال الأمير أحمد فضل القمندان في قصيدة ذاع صيتها في استقبال أخيه السلطان العائد من زيارة لأوروبا، وهو المعنى الذي نستلهمه منها غداة الحرب العالمية الثانية وقد دخلت المدينة الساحرة "عدن" عهدا من النهوض الاقتصادي والمجتمعي والثقافي غير مسبوق.

وكانت الديار اللحجية تتموضع في إشراقات مماثلة تبدأ من زراعة القطن ومردوداته على الفلاحين والسلطنة ولا تتوقف عند مجالات الإشراق في التعليم و الأدب والغناء بمعطيات المدرسة المحسنية والدورة الغنائية الثانية بعد القمندان بريادة سبيت و فضل محمد و سواهما .

هذه التمخضات هنا و هناك في عدن و لحج، سوف تدفع بتيارات فكرية و سياسية وحزبية أيضا إلى المقدمة والمجاهرة معا.

و من هنا استشف المنابع الأولى لجملة شباب الوهط ومنهم أبوبكر عبدالرحمن السقاف فكريا وسياسيا من رياح التغيير التي تهب على عدن و لحج من السماء المفتوحة بعد تلك الحرب وبروز نظام عالمي جديد له اليد الطولى في دعم الثورات التحررية وداعم بالأساس للأفكار اليسارية بصيغها المختلفة، وهوما فتح المجال للثورة المصرية الرائدة بزعامة جمال عبدالناصر أن تضطلع به - فيما بعد - على المستويين العربي و العالمي في نطاق أفريقيا وآسيا وحتى أمريكا اللاتينية.

وفي الوقت الذي كان فيه أبوبكر السقاف وعمر الجاوي قريبين من الفكر اليساري التحرري ضمن الرؤية الأولى كان العلم البارز الأستاذ عمر سالم طرموم يتقفى خطوات التأسيس لفكر إسلامي سياسي مستنير كان من نتائجه التأسيس لذلك الاتجاه و كرائد له فيما بعد في تعز، قبل أن ينشق عنه الإخوان المسلمون المعروفون حتى اليوم ، ولكن بعد أن ذاق الرجل محنة السجن في الحوطة على عهد السلطنة وعدن على عهد الاشتراكيين الجدد بعد الاستقلال.

واللافت أن أحد شباب الوهط الشهيد عبده حيدرة عوض كان قد بدأ مبكرا تأسيس خلايا يسارية تكاد تكون الأولى في المنطقة قبل أن تغتاله السلطات بتدبير كمين له في منطقة الحواشب في منتصف الستينيات تقريبا.

أما محمد جعفر السقاف فأغلب الظن أنه كان رفيق الجاوي والسقاف في ذات الاتجاه السياسي والفكري.

و يمكن الاستنتاج أن طلبة المدرسة الجعفرية على عهد مديرها المصري عزت مصطفى منصور قد مالوا إلى الأفكار القومية والناصرية تحت تأثير الأستاذ عزت الذي كان مبعوثا ضمن البعثة التعليمية المصرية عام 1954م و لكنه كان يؤدي دورا سياسيا مخفيا عن السلطات بإيعاز من قيادته في مصر.

ونستطيع أن نتذكر من هؤلاء الطلبة : أحمد سالم عبيد، محمد عيدروس يحيى، طه زين أبوبكر، محمد فضل مطر .. وقد ذهبوا إلى الكويت لمواصلة الدراسة الثانوية هناك ليلاقوا رعاية من ابن منطقتهم الأستاذ الشاعر أحمد السقاف المعروف باتجاهه العروبي القومي.

و عندما ابتعث أبوبكر والجاوي ومعهم محمد جعفر زين ومحمد عمر اسكندر السقاف للدراسة في مصر منتصف الخمسينات الماضية، كانت الأجواء مهيأة لهؤلاء الطلاب لبلورة معتقداتهم الآيديولوجية و السياسية بأفق الثقافة المفتوح في مصر، فاتجه السقاف إلى السياسة من بوابة المطالعة و الفكر دون ميل إلى التحزب وهي الصفة التي رافقته حتى وفاته.

بينما انخرط الجاوي في نشاطات اليسار الماركسي ضمن ( حدتو ) . وربما رافقه في ذلك محمد جعفر زين لأنه كان رفيقه في رحلة الطرد من القاهرة بعد أحداث الصراع بين الطلبة اليمنيين من بعثيين و ناصريين مع اليساريين كعمر و باسلامة ومحمد جعفر ليعودوا إلى حاضرة الإمام مدينة تعز، وعبدالله حسن العالم تضامنا مع المطرودين.

و من وحي الاقتراب من أبوبكر في موسكو على تسعينيات القرن الماضي تتضح علاقاته باليسار المصري واستمراريتها عندما جعل من القاهرة محطة عبوره للسفر إلى سكنه في مدينة الثلج قادما من صنعاء، إذ يعود محملا بإصدارات التجمع الوحدوي المصري و تحديدا من رفعت السعيد لتكون من نصيب كاتب هذه السطور.

لاشك أن أبوبكر قد عنت له الدراسة في جامعة موسكو كل شيء و أي شيء، فهو الطالب الذي يسبق عصره في التتبع الواعي للفلسفة و جذورها وتفرعاتها وخاصة الفلسفة العربية الإسلامية والأخذ بناصية التبحُّر في فكر المعتزلة، ولعل هذا كان مدخلا لكي يتشارك مع الأساتذة الروس في تأسيس قسم الدراسات الإسلامية في الجامعة الرائدة.

وكان له من المقدرة العلمية أن يدرس تخصصات أخرى إلى جانب الفلسفة علم الجمال مثلا.

و ظلت ترافقه تلك الزمالة العلمية والفكرية بكبار الأكاديميين و المفكرين الروس على مدى سنين حياته.

كان أبوبكر و زميله عمر يستغلان العطلات الصيفية للعمل ضمن الفرق الطلابية التي تشارك في أعمال البناء المخطط لها مقابل مبالغ مالية بسيطة.

عمر اكثر حاجة لتلك المبالغ بينما يحظى أبوبكر ببعض الحوالات المالية من أبيه في الحبشة، وعمر كان أكثر نشاطا بين صفوف الطلاب و ترأس رابطتهم، وكان أبوبكر صديقا وزميلا للأكاديميين والطبقة المثقفة في موسكو، كان عمر أيضا على نفس تلك الوتيرة يضاف إليها مكانة شقيقة ( زوجته ) التي كانت مسؤولة كبيرة في الحزب الشيوعي السوفييتي، وعندما احتاج أحد الأكاديميين الكبار من أصدقاء أبوبكر للعون بعد أن فصله الحزب الشيوعي من عضويته وهو ما يعني تدمير حياته الأكاديمية والعملية استعان أبوبكر بعمر، الذي فاتح أخت زوجته بالأمر وكانت تكن له حبا باعتباره واحدا من أسرتهم الصغيرة، سألها عمر:

- هل تعرفين البرفسور فلان؟

أجابته:

- ما به هذا الحمار.

- حمار أو حتى فيل هو صديق أبوبكر، وأريدك أن تتدخلي لإيقاف طرده من الحزب.

و قد كان ما أراد عمر على مضض من السيدة الحزبية لمحبتها لعمر.

في مقابلة تكرمت بها قناة "عدن المستقلة" أسهبت في وصف حياة أبوبكر في موسكو مع زوجته الفاضلة "لينا سرجيفنا" عالمة في الكيمياء و ابنته ذات الملامح الوهطية ( لوبا ) التي هي الآن بروفسور في جامعة كمبريدج الإنجليزية، وتتولى السيدة لينا توفير الراحة التامة لزوجها حتى الوجبات اليمنية التي تجيد طباختها جيدا و كان لنا نصيب منها.

عندما يعود أبوبكر من جامعة صنعاء في العطل الصيفية تكون "لينا" قد جهزت له ملفا كاملا عن ما كتبته الصحافة الموسكوفية في مجال اهتمامه طوال فترة غيابه.

لاشك أن الأحداث الكبرى التي مرت بها اليمن في مطلع الستينات الماضية بعد ثورة سبتمبر قد أجبرت السقاف والجاوي على قطع دراستيهما و العودة إلى تعز، وتقاطر عشرات الطلاب اليمنيين على رأسهم أبوبكر السقاف و القاص محمد احمد عبدالولي وعبدالله حسن العالم تضامنا معهم.

وعمل الرجلان كمترجمين مع الخبراء الروس الموجودين مع القوات المصرية و اليمنية.

وكان أبوبكر كما عمر قد ألف صداقات جيدة من نخبة من مثقفي الحالمة تعز بعد عودتهم من مصر في طريقهم للابتعاث من قبل البدر الى البلدان الاشتراكية .

و إذا كان أبوبكر السقاف يستطيع الحركة بحرية في المدينة فإن عمر كان عليه ان يتخفى خاصة بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م .

ويعود أبوبكر نهاية الستينيات لإكمال رسالته العلمية في موسكو قبل أن يحط في عدن و صنعاء عدة مرات ليستقر في الاخيرة أستاذا في جامعتها الوليدة و مطرودا غير مرة و عائدا إليها بعد لجؤه للمحكمة.

منذ البدء كان السقاف مشعل نور و فكر يهتدى به
في تفنيد الحالة الاجتماعية و السياسية في اليمن من زاوية تسلط الحكام عليه من ائمة الهضبة الشمالية سواء كانوا من البطن الزيدي العدناني الهاشمي أو من جاءوا على هيئة أئمة بوجوه جمهورية بعد ثورة سبتمبر 1962 م من البطن القحطاني و ترسيخ معتقدهم الماثل في فتح البلاد جنوب ذمار و إحلال الجباية و ربما الجزية عليها .

لقد مثل كتاب السقاف :( اليمن .. بين السلطنة و الجمهورية ) باسم مستعار هذه المرة (عبدالسلام محمد) جهود نقاشات و مراجعات نخبوية للحالة اليمنية استقر الرأي ان تتبلور في كتاب ، و يكون أبوبكر السقاف واضعه بعمق التفكير الذي يسبر التبدلات التاريخية في اليمن ويتابع بعدها الاجتماعي و السياسي و الثقافي و إرجاعه إلى جذوره و سيرورته و تأثيراته على الناس مذ التأسيس الأولي لدولة يحيى بن الحسين الرسي 284 هـ و حتى لحظة انتقال الإمامة من عدنانية إلى قحطانية في سبتمبر 1962م بالثورة والجمهورية معا، دون أن يتزحزح الغطاء الآيدلوجي المذهبي لحكام الهضبة و رؤيتهم العنصرية للبلاد ما بعد ذمار جنوبا، وهو ما أوصل اليمن إلى ما قبل الثورة بعد الثورة والجمهورية بخمسين عاما في 2014م.

و قد تابع أبوبكر - لاشك في ذلك - تلك المشاهد الجديدة القديمة وكما تنبأ بها في كتابه، ومن بيته في موسكو قبل أن يغمض عينيه في نوم أبدي في 13 ديسمبر 2022 م.

زوايا الرؤية الفكرية - السياسية للسقاف تتسع باتجاه أفقي لتفنيد الحالة الاجتماعية و انعكاساتها السياسية في اليمن بأبعاد موضوعية و ذاتية تقربنا من الفهم الصحيح للقوى الفاعلة و تأثيراتها على المدى التاريخي المفتوح حتى اليوم، بحيث نقف على مشاهد طللية أمعن في صناعتها تبدلات القوى القبلية المهيمنة بتواشيح المذهب والدين مخلفة أثرا سلبيا يجر نفسه على التاريخ كزمن وعلى الجغرافيا كمكان دون استثناء ديموجرافية سكان الكدح و المعاناة من فلاحين و أُجَراء و عبيد و لاحقا العمال و صغار الموظفين ..إلخ .

و في اتجاهه الفكري بأفق المعرفة الإنسانية وضع السقاف بين أيدينا كتابين في السبعينات الماضية تحت عنوان متشابه ( دراسات في الفكر و الثقافة و الأدب ) ترصد الفضاء الثقافي و الفكري بأبرز رموزه الفاعلة عالميا عاملا فيها تمحيصا ونحتا ذهنيا واعيا و تبسيطها ما أمكن للقارئ المحلي.

ولعلني وجدت فيهما ما أريد أن أرصع به دراسة كتبتها عن الفنان الشعبي فيصل علوي حينما أردت الكتابة عنه بعد وفاته من زاوية مغايرة .

فالسقاف قد درس علم الجمال و انعكاساته على الموسيقى والفن، ناهيك عن شغفه هو بالموسيقى و الغناء كأذن موسيقية واعية، لا يمر الإطراب منها دون نقد اذا حمت ساعته، وقد لاحظت ذلك في جلسات المقيل عند صاحب الفضيلة الأستاذ هشام باشراحيل الذي يدرك حاجة السقاف كما هي حاجته هو للموسيقى العربية فنشبع جميعا من منهل الأصيل الموسيقي والفني ، وحين يمر الفنان علي الحجار يثني السقاف على موسيقاه كمجتهد و يردف : إن صوت الحجار بحاجة للبعد الوجداني سلم العبور إلى قلوب مستمعيه.

و هذان الكتابان المومأ إليهما قدم لهما - وأي تقديم - الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي كان حينها متدثرا بدثار اليسار و التقدمية، إلا أن المسافات بين الفيلسوف والشاعر تباعدت تماما فقد اختار المقالح أيسر الطرق وأفضلها ماديا بالارتماء في حضن ( المعز) وذهبه

و الابتعاد عن سيفه، أما السقاف فقد مضى كما كان منافحا للحاكم وأذياله و منهم المقالح نفسه، إذ جرب فصل السقاف من الجامعة و قطع رواتبه عدة مرات ولكن السقاف يتفوق بقوة القانون كل مرة، لتصبح عقدة المقالح على المدى هي (السقاف).

عندما ماتت الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة يوم الأربعاء بتاريخ20 يونيو2007م كتبت عنها مقالة مطولة في "الأيام" نشرت بعد يوم من وفاتها، تناولها أبوبكر السقاف بالتعقيب في الصحيفة نفسها، مترفقا بي ومبديا إعجابه بسرعة المبادرة والكتابة عن الشاعرة قبل أن يجف تراب قبرها، ولكنه عقَّب على جملة وردت في مقالتي ذكرت فيها أن رائد الحداثة الشعرية هو عبدالعزيز المقالح، لينزعها منه و يستعرض أعمال رائدي الحداثة محمد أنعم غالب و صادق ابراهيم.

حتى ما قبل الوحدة اليمنية في عام 1990 م كان أبوبكر يجد ضالته في المجلات الأدبية والثقافية ليطل على المشهد اليمني من نافذة الثقافة و الأدب والفكر، بعيدا عن المقالة السياسية المباشرة، لا على خوف من السلطات، وقد أوجع التوليفة الحاكمة بالكتاب الممنوع (اليمن ..بين السلطنة و الجمهورية)، وإنما لانشغالاته الفكرية والأكاديمية التي تستغرقه كثيرا، وخاض معارك فكرية كثيرة منها مع صديقه و زميله و رفيقه عمر عبدالله الجاوي الذي اعتبر في كتاب له محمد محمود الزبيري شاعر الوطنية الأول بينما يذهب السقاف إلى أن الزبيري هو دون ذلك شاعرا للحرية.

وبالمقابل كان الجاوي ينعت الأمير أحمد فضل القمندان بخالق النهضة الموسيقية والغنائية في لحج، والسقاف ينظر اليه باعتباره (ابن المعتز) الآخر افتتن بالفن و الطرب و الزراعة دون أن ينسلخ عن طبقته كأمير.

و يحتفظ أرشيف الجاوي الذي لم ينشر بكتاب عن القمندان و أطروحاته الشعرية و الغنائية في ربوع لحج، بينما مخطوطات السقاف لعدة كتب فلسفية وفكرية وسياسية تتعرض للسطو من الأجهزة الأمنية بصنعاء عندما اُقتحمت شقته في السكن الجامعي لجامعة صنعاء.

و عندما أراد عبدالمجيد الزنداني مناظرة السقاف في جامعة صنعاء، وكان السقاف حينها رئيسا لمنظمة تعنى بحقوق الإنسان - و ذلك بعد الوحدة - أتى الزنداني بكتيبة مسلحة من زعران حزبه والجماعات الإرهابية المنتمية إليهم مما حدا بالسقاف أن يترك القاعة احتجاجا على عسكرة القاعة وانتهاك حرم الجامعة.

وفي إحدى زياراته المتكررة لعدن باشراحيل و"الأيام" و قد وصل مباشرة من المطار إلى دار "الأيام" عصرا حيث كان ضيفا ليلتها على المنتدى د. بامشموس رئيس جامعة حضرموت وكان يتحدث بحجج صاغها عن ضروريات تغريب التعليم الجامعي والأخذ بالإنجليزية كلغة للتدريس ..إلخ .جلس السقاف وأخذ بطرف الحديث مسقطا حجج بامشموس واحدة تلو الأخرى وجعل الرجل يتراجع عن ما كان يجلدنا به قبل ساعتين من حجج واحدة تلو الأخرى.

كان هناك إلحاح من عمر الجاوي و آخرين من النخبة القريبة من السقاف، أن يكتب المقالة السياسية في صحف ما بعد الوحدة، وقد وجدت مقالاته في "الأيام" و "الثوري" و "الوحدوي" و "التجمع" ..إلخ صدى واسعا في شارع الصحافة اليمنية و كان لها مذاق العلقم على الطبقة الحاكمة خاصة شريك الحكم الشمالي.

وكان يُحذر من مغبة هرولة قادة الجنوب نحو صنعاء في وحدة اندماجية.

ولم يجد غضاضة من البوح بنفسية صنعاء كنظام ونظرتها التمييزية بين مواطني البلاد، ضاربا مثلا أن نظرتهم اليه كمواطن من الدرجة الثالثة وربما الرابعة على اعتقاد منهم أنه من قرية الحضارم بتعز، فإذا علموا أنني من الوهط - والقول للسقاف - لربما اعتبرت مواطنا من الدرجة الخامسة أو السادسة.

من دأب أبوبكر السقاف أن يجعل المقالة الاعتيادية مرتقى إبداعيا يصعد إليه القارئ طمعا في الفائدة المعرفية، و يصدق من قال أن قراءة مقالة من مقالاته تحتاج إلى ذهن صافٍ و قراءة ثانية، وليس ذلك من باب تقعير اللغة أو توحيشها بمفردات غير معروفة أو غير متداولة، فهو الفيلسوف الأديب بحق ولغته تنحو ذاك المنحى من السلاسة والعمق و التكثيف المعرفي و نصاعة الجملة في المبنى و المعنى معا، فهو لا يخاطب بها شخصا بعينه لينزل إلى مستواه بل هو يكتب لنفسه و على من أراد قراءته فعليه أن يخلص النية لتسلق واكتشاف هذا الجبل.

ولعلني استشف من أحاديثه أنه بدأ أديبا في الوهط عندما عاد إليها من الحبشة حيث ولد ، فقد حدثني عن مجموعته القصصية المفقودة بعد أن اودعها عماته وارتحل إلى مصر للدراسة.

ولكن خطراته في الوهط وأزقتها و جلسات السمر و المقيل في دكان الشيخ عوض عباد هي قبسات من مرحلة التشكل السياسي له و لمجايليه في المدرسة الجعفرية بالوهط أو المحسنية بالحوطة على نهاية الأربعينات و مطلع الخمسينات.

ويصف تلك الفترة بطريقته الفلكلورية الساحرة و يبعث في الزمان والمكان حياة انفصل عنها قبل نصف قرن ونيف، مع قلة زياراته للوهط بل و نذرتها على عكس زميله عمر الجاوي الذي خصص ثاني أيام العيد يوما في السنة لزيارة مسقط رأسه صاحبا معه كوكبة من الأدباء و الشعراء و السياسيين و السفراء ..إلخ ليكون يوما من أيام عمر التي لا تنسى.

ليس غريبا أن تتعمق عداوة الحكم لفيلسوف ومفكر مثل أبوبكر السقاف فقد بدأت تلك العداوة باكرا أيام الجمهورية العربية اليمنية و تعرضه للملاحقة و فُصل من عمله و صُودرت مرتباته عدة مرات لكن شموخ أبوبكر يبقى عصيا على الشراء أو المساومة، فيلجأ إلى القضاء لمقاضاة النظام كل مرة.

و بعد الوحدة كانت مقالاته أكثر إيلاما لنظام نظر للديمقراطية ديكورا لخداع الرأي العام المحلي و العالمي .

و جرت الملاحقات و الاعتداءات بالضرب غير مرة لثنيه عن نقد توليفة الحكم العسكري القبلي بمقالاته اللاذعة وخاصة بعد حرب احتلال الجنوب عام 1994م و التي عكرت نشوة النصر الذي يشبه الهزيمة في رأس النظام و جعلته يلجأ للأدوات القمعية البوليسية ويقدم على ضرب السقاف بعصي كهربائية وافقاده عينه اليمنى و رميه في ضاحية بيت بوس أملا في أن تأكله الكلاب هناك و التي اثبتت ( انسانيتها ) أكثر من نظام صالح فلم تتعرض له و عاد مشيا على الأقدام رغم الجراح البالغة التي لحقت به.

كان بإمكان السقاف أن يكتب من موسكو ليبقى في مأمن من أداة النظام البوليسية لكنه آثر أن يعود بعد أن تابعنا يوميات الحرب العدوانية يوما بيوم.

عاد إلى صنعاء الجذلانة نشوة بالنصر القبيح على الجنوب ليكتب منها سلسلة مقالاته النارية لـ "الأيام " الغرَّاء و المعنونة بـ ( جناية الوحدويين الاندماجيين ..احتلال الجنوب و فتح عدن )، والتي جلبت لـ"الأيام" الغرَّاء و صاحبيها الأستاذين هشام و تمام باشراحيل الإرهاب ذاته الذي مورس على أبوبكر بل تعداه لتقصف دار "الأيام" بمن فيها من نساء و أطفال أكثر من أربع ساعات.

لم يُفوِّت السقاف لحظة لاستنهاض القوى الجنوبية المختلفة في وجه الاحتلال الشمالي و تكررت زياراته لعدن للالتقاء بالشخصيات الجنوبية المختلفة لذات الغرض إلى جانب ما وفرت "الأيام" و أصحابها الأستاذ هشام باشراحيل - رحمه الله - و الأستاذ تمام باشراحيل من عمل مضن لإخراج القوى الجنوبية من صمتها و إيجاد حامل سياسي لقضية الجنوب كما تبدى في ( الحراك الجنوبي ) بعد ذلك.

كان بإمكان آخر الفلاسفة العظام بعد ابن رشد و هو في شيخوخته أن يذرع الفضاء بين صنعاء و عدن مرات و مرات لإشعال ثورة

أبناء الجنوب ضد المحتلين كبرهان على أن هذا الشعب - وإن هزمته جحافل الاحتلال على غرة عام 1994م إلا أنه لا يرضى بالاستعمار خارجيا كان أو داخليا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى