أفريقيا لأوروبا: الاعتذار وحده لا يكفي

> حكيم مرزوقي

> ​ما معنى أن تعتذر لي اليوم، أيها “الأكثر من مستعمر” بعد هذه الندوب التي خلفتها في روحي منذ قرون، والتي سوف أورثها لأحفادي جيلا بعد جيل.

هذا ما يقوله لسان حال أي أفريقي عاش ولا يزال يعيش مأساة تمتد آثارها وتداعياتها لتطال المأكل والمسكن والمتنفس، وكذلك آفاق الثقافة والتفكير وعلاقته بجيرانه ومحيطه ومستقبل أطفاله.

هل يكفي أن يقول الغرب للقارة الأفريقية “عذرا لقد أخطأنا ومنك السماح” حتى ينتهي كل شيء. وتتعهد بذلك مراسم احتفالية دولية تأخذ طابعا بروتوكوليا صرفا في الأول من يوليو الذي يوافق مرور 150 عاما على انتهاء العبودية.

هكذا في اعتقادهم، تنتهي العبودية وآثارها على أوراق هي في حوزة المنظمات المختصة في بحث تاريخ العبودية. ولا يريد هؤلاء أن يعرفوا أن الاعتذار خطوة بسيطة وصغيرة جدا في طريق طويلة نحو نزع الآثار والكدمات ونسيان الجراح.

ملك هولندا الذي ساهمت العبودية في تمويل “القرن الذهبي” لبلاده الاستعمارية سابقا، قدم اعتذاره منذ أيام، وهو يدرك أن “فترة ازدهار المملكة” جاءت من خلال التجارة البحرية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إذ قامت بلاده بالاتجار بنحو 600 ألف أفريقي خصوصا نحو أميركا الجنوبية والكاريبي، لكنه يعلم ضمنيا، أن الاعتذار لشعوب بأكملها ليس أن تقول “عفوا” وتمضي.

وهكذا تأتي الاعتذارات الخجولة و”المجانية” بالتتابع، من دول أوروبية عديدة ذات تاريخ استعماري مشين كبلجيكا التي سبق أن أعرب ملكها فيليب عن “أسفه العميق” للفظائع التي ارتُكبت خلال الحكم الاستعماري لبلاده لجمهورية الكونغو الديمقراطية خاصة في عهد أسلافه ولاسيما ليوبولد الثاني، الذي حكم في القرن التاسع عشر.

وفي سعي لإظهار حسن النوايا، كانت ألمانيا قد قدمت اعتذارا العام الماضي عن جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت مطلع القرن الماضي في ناميبيا حيث تعهدت بدفع مليار يورو كمساعدات تنموية، لكن هل يكفي “تبويس الشوارب واللحى” كي تندمل الجراح؟

مما لا شك فيه أن الدول الاستعمارية الأوروبية السابقة تواجه الكثير من الضغوط لتقديم تعويضات عن الفظائع التي ارتكبت خلال حقبة الاستعمار، فيما ساهمت حركة “حياة السود مهمة” الأميركية في زيادة هذه الضغوط، لكن الجهات اليمينية تواصل “المكابرة” بل وتمشي أبعد من ذلك في رفض تقديم الاعتذارات التي يرون فيها بداية سلسلة من “التنازلات”.

وحتى هذه الاعتذارات المنقوصة والاعترافات المبتورة والتصريحات الخجولة، لم تعجب جماعات اليمين والعنصريين في بعض البلدان الأوروبية، فراحوا ينظمون الحملات المضادة متناسين ذلك الماضي الاستعماري الأسود الذي رسمته حملات الإبادة والتطهير العرقي وصل حد الصفاقة المتمثلة في تمويل مباني مؤسسات رسمية من عائدات ذلك العصر الذي لم يكن ذهبيا كما هو الحال في أمستردام الهولندية.

الاعتذار يعني التعويض المالي كحد أدنى من إبداء الأسف وجبر الأضرار على المستوى المادي، فما بالك بالجانب المعنوي الذي يمكن التعويض بجزء منه في إقامة مشاريع وخطط تنموية من شأنها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من الأجيال القادمة.

الغرب الأوروبي يعلم أن المهمة بالنسبة إلى حساباته المالية قد تكون “مكلفة”، ويخشى أن تمثل “سابقة” لذلك يكثر من التلكؤ في هذا الأمر أمام من ينادي بإنصاف بلاده التي عانت الاستغلال والعبودية.

وفي هذا الصدد، قال أرماند زوندر رئيس لجنة الإصلاح الوطنية في سورينام، إن الاعتذار وحده ليس كافيا، كذلك خطط تخصيص مئتي مليون يورو لزيادة الوعي حول العبودية وتخصيص 27 مليون يورو لبناء متحف لا يكفي أيضا. ونقلت وسائل إعلام محلية عن زوندر قوله إن “ما جرى تدميره يجب إصلاحه. يشير إطارنا المرجعي إلى أن الأمر ينطوي على دفع المليارات وليس المئات من الملايين”.

حجم الكوارث التي تركتها الحقب الاستعمارية في أفريقيا والكاريبي لا تحصى، وتمتد لتشمل البيئة والتصحر والموارد المائية وغيرها، فضلا عن تمزيق تلك المجتمعات وزرع بذور الشقاق فيها بسبب سياسات “فرق تسد” التي كانت تتوخاها بين القبائل الأفريقية.

الولايات المتحدة من جهتها حاولت أن تقدم معالجات ومقاربات إزاء أفريقيا، تبدو واقعية أكثر من أوروبا المنشغلة بأزماتها الداخلية، إذ شهد العام 2022 تحولا كبيرا في موازين النفوذ الدولي لصالح واشنطن بعد القمة التي استضاف فيها الرئيس الأميركي جو بايدن زعماء وممثلي 50 دولة أفريقية في ظل انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا والانسحاب المفاجئ للجيش الفرنسي من مالي.

لعنة الماضي الاستعماري ستظل تلاحق أوروبا، ولن تتخلص من كوابيس ماضيها في أفريقيا إلا باعتذارات ترافقها تعويضات كافية لمنح شعوب المنطقة فرص مواكبة الركب وهدم الهوة بين الشمال والجنوب.

العرب / كاتب تونسي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى