في وداعها... إذاعة الـ بي بي سي والمكلا

> بعد 85 سنة من الإرسال الإذاعي، والعمل الفكري والإعلامي يتوقف القسم العربي في الإذاعة البريطانية الـ "بي بي سي" وتنتهي إلى الأبد، إذاعة عشنا معها سنوات طويلة من عمرنا وعاش آباؤنا سنوات طويلة أيضا بل ارتبطت بحياتهم، وأثرت على تفكيرهم وكانت بمثابة عشق يومي لصوت المذيعين أو دقات ساعة بنج بن، بترنيمتها الرنانة والعابرة للآذان ، التي تجعلك تقف وتنصت ولو لمقدمة النشرة.

إذ لعبت إذاعة لندن دورا كبيرا ومؤثرا في حياتنا وفي حياة كل الشعوب العربية، ودخلت كل بيت وجلس المستمع العربي في المقهى ينصت من الراديو التقليدي القديم إلى "هنا لندن" باهتمام بليغ وفيه شجن ولهفة وترقب، وكان المواطن العربي في عدن والشحر وبغداد ومراكش والقاهرة يعطي ثقة واهتمام كبيرين لإذاعة لندن ، في أخبارها والإنصات باهتمام للخبر المنقول عبر الإذاعة منذ الصباح الباكر، بل كان يفضلها على إذاعة بلده، مع قلة الإذاعات العربية في الخمسينات والستينات وحجب كثير من الأخبار المحلية عن مواطنيها، فيما يحصلون على ما يخف عنهم عبر إذاعة الـ "بي بي سي " أو تحجبه الإذاعة الوطنية وسياسات الحكم في البلدان العربية.

الأول من اليسار وكيل قائد عمر سعيد باشامي الحامدي، وكيل قائد سالم عمر الجوهي أثناء زيارتهما لهئية الإذاعة البريطانية بلندن بي بي سي
الأول من اليسار وكيل قائد عمر سعيد باشامي الحامدي، وكيل قائد سالم عمر الجوهي أثناء زيارتهما لهئية الإذاعة البريطانية بلندن بي بي سي

كانت مدينة المكلا تتميز بوجود مقاهي منتشرة منذ خمسينات القرن الماضي، وبها راديو كبير من الخشب، في مكان ينظر اليه الناس ويسمعون صوته، وكان جملة "هنا لندن" تجعل من هذا المقهى مكانا متميزا ومزدحما بالرواد منذ الصباح الباكر، وتميزت مدينة الشحر، بهذا أيضا، فاشتهرت مقهى بازهير ومقهى الجيب ومقهى بن عروة ومقهى سالمين خييرة في مدينة المكلا بامتلاك الراديو وإذاعة لندن، في فترات الصباح ثم الظهيرة وبعد العصر، وتكتظ المقاهي بالرواد من مختلف الطبقات وهم يتابعون الإذاعة البريطانية وخصوصا في المساء وتقاريرها المتميزة.

كنت قد تعلقت بإذاعة لندن منذ فترة مبكرة من حياتي، ولم أدرك بعد بماهية الشيء الذي يلقي بحديثه الجهوري والقوي الذي تهتز، له أذناي الصغيرتان في قرية الريان، أو محطة ومطار الريان القديم، حيث كنا برفقة والدي الذي كان يعمل هناك في فترة تواجد الإنجليز، وهي قاعدة صغيرة للطيران ومطار ترابي مدني، أيضا لطيران خطوط عدن في الستينات وفي منتصف الخمسينات قدم المهندس العم محمد عبدالله العدني من عدن ليعمل في محطة كهرباء الريان، وتزوج من إحدى قريباتنا وعاش ومات بالمكلا، واستقدم راديو وحيد في القرية الصامتة ويصل مدى هذا الراديو، إلى كل أنحاء القرية ولمسافة أبعد بحكم ذلك الزمن والهدوء التام، كنت أسمع أغاني فايزة أحمد " يامه القمر عالباب " وتتكرر على المسامع كلمة فلسطين ومصرو... إلخ، وبعد أن وعيت كنت أحيانا أرافق والدي في عمله أو في نوباته الليلية، وحينها يطلبون من الموظف الإنجليزي الأصل القائم على اللاسلكي أو كما ينطقوه (الوايرلس)، أن يفتح موجة إذاعة الـ "بي بي سي" بالعربي، وينصتون إلى نشرة الساعة السابعة وزمن المذيع مصطفى رمضـان، أو رشيدة المدفعي، كان ينزوي بعيدا ولا يتدخل، بل علمني -حينها - كيف أضبط الرقم على موجة الإذاعة وصوتها القادم واصفيه من الذبذبات الأخرى هذه حكايتي الأولى.

أما حكايتي الأخرى مع الـ بي بي سي حين التحقت بالمدرسة في مدينة المكلا وفترة معرفة أو مشاهدة الراديو المعلق أعلى المقهى والنظر إليه، لكن أبرز ما يحتفظ، به خاطري هو صوت إذاعة الـ "بي بي سي" صباحا لأننا نصحو مبكرين ولدينا مهام من أهلنا قبل الذهاب للمدرسة وهي جلب القضب أو البرسيم لأغنامنا من خارج مدينة المكلا أي عند سدة المكلا التي حطمت بعد الاستقلال بستة شهور، رفضا لرمزيتها السلطانية المبادة، إذ أول ما نسمعه فور خروجنا إلى الشارع صوت راديو مقهى الحافة الذي يديره مالكه عبدالله بن عون، الملقب كلبو بجانب مسجد بازرعة، ودوي صوت المذيع، واخبار بيانات حرب عدن والتحرير ومكاوي والتعليق، على أخبار جمال عبدالناصر أو خطاباته الساخنة آنذاك، ثم أغاني شادية وصباح وكارم محمود، وأيضا نذهب إلى مكتبة الرسدنسي التابعة للمستشارية البريطانية وهناك نحصل على مجلة هنا لندن، وأيضا، نقرأ هذه المجلة في مكتب الاستعلامات التابع أيضا، للمستشارية في سكة يعقوب ويديره شخص لطيف اسمه سعيود ويفتح على فترتين، وحين كبرنا وصلتنا هذه المجلة من إذاعة لندن مباشرة عبر البريد وكنا نسعد لما بها من جهد وثقافة ومواضيع مفيدة ورائعة جدا.

لم تنقطع علاقتي بإذاعة الـ "بي بي سي" القسم العربي بالإذاعة البريطانية، فكنا نتابع برامج الرياضة وافطيم قريطم ونقل المباراة الخيرية من ملعب ويمبلي بلندن والمعلقين أنور بشوتي وأكرم صالح، ثم لاحقتني إذاعة القسم العربي من لندن إلى مينسك بروسيا البيضاء ومنها استمعت إلى البيانات وأخبار الأحداث المؤلمة في يناير 1986م في عدن، وربطت آريـال مضاف بالراديو وجعلتها تشتغل طوال اليوم لأنها أعطتنا الحقائق لما كان يدور في عدن وكانت غرفتي مركز أخبار الـ "بي البي سي" يومها، وكيف كان يقوم بزيارتي كثير من طلابنا من الداخليات المتناثرة بالمدينة.

ولحضرموت حصة من تاريخ إذاعة "بي بي سي" بالعربي قبل نصف قرن ونيف، فقد زاراها اثنين من القادة العسكريين الحضارم في الستينات هما عمر سالم باشامي وسالم عمر الجوهي، وجلسا أمام ميكرفونها الشهير، كما زارها السلطان صالح بن غالب القعيطي وأهدى القسم بعض اسطوانات لأغاني حضرمية، وكنا نستمع منها، لأغاني الفنان شيخ البار ومحمد جمعة خان.

أغلقت هذه الإذاعة إلى الأبد، ومهما قيل عنها في بعض الأزمنة عندنا وما رافق من تحفظ وخوف من الاستماع إليها، لنكهتها الاستعمارية وخلاف الثوريين في أكثر من بلد عربي معها، إلا أنها كانت راقية ورفيعة المستوى من حيث الأداء ونطق المذيع وضبط اللغة العربية، والمعلومات والبرامج المفيدة للدرجة التي وصفها البعض ممن تولعوا بها أنها بمثابة جامعة بحالها وأنها ترفع من مستوى الإنسان العادي وتصنع منه مثقفا إذا أراد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى