من أبطال المسلمين

> عمر بن العاص (1)
توالت فتوحات عمرو بن العاص بعد ذلك في المدن المصرية الواحدة تلو الأخرى؛ حتى بلغ أسوار الإسكندرية، فحاصرها وبها أكثر من خمسين ألفًا من الروم، وخلال فترة الحصار هذه مات هرقل وجاء أخوه بعده مقتنعًا بأنه لا أمل له في الانتصار على المسلمين، فاستدعى المقوقس من منفاه، وكلَّفه بمفاوضة المسلمين للصلح.

وفي اتفاقية الصلح جاء عدد من البنود، منها: أن تُدفع الجزية عن كل رجل ديناران، ما عدا الشيخ العاجز والصغير، وأن يرحل الروم بأموالهم ومتاعهم عن المدينة، وأن يحترم المسلمون حين يدخلونها كنائس المسيحيين فيها، وأن يُرسل الروم مائة وخمسين مقاتلاً وخمسين من أمرائهم رهائن لتنفيذ الشروط. وقام عمرو بن العاص بإرسال رسول إلى الخليفة عمر رضي الله عنه ليُبَلِّغَه بشارة الفتح.

قضى عمرو بن العاص في فتح مصر ثلاث سنوات، وقد استقبله أهلها بالكثير من الفرح والترحيب، لما عانوه من قسوة الروم وظلمهم، وقد كانوا خير العون لعمرو بن العاص ضد الروم، وكان عمرو –رضي الله عنه- يقول لهم: يا أهل مصر؛ لقد أخبرنا نبينا أن الله سيفتح علينا مصر، وأوصانا بأهلها خيرًا.

وقد كان عهد ولاية عمرو على مصر عهد رخاء وازدهار، فكان يحبُّ شعبها ويُحبُّونه، وكانوا ينعمون في ظلِّ حكمه بالعدل والحرية، وفيها قام بتخطيط مدينة الفسطاط، وأعاد حفر خليج تراجان الموصِّل إلى البحر الأحمر لنقل الغنائم إلى الحجاز بحرًا، وأنشأ بها جامعًا سُمِّيَ باسمه، وما يزال جامع عمرو بن العاص قائمًا إلى الآن بمصر.

كان الأقباط في فترة حكم الروم يُعانون من قسوتهم واضطهادهم، وإجبارهم على ترك مذهبهم واعتناق المذهب الرومي، فجاءت إحدى المواقف المهمة والتي أكَّدت على مدى احترام المسلمين للديانات الأخرى، فقد كان للأقباط رئيس ديني يُدعى بنيامين حين تعرَّض للقهر من الروم فاضطر إلى الفرار منهم، وعندما علم المسلمون بالأمر بعد الفتح أرسلوا إليه ليُبَلِّغُوه أنه في أمان، وعندما عاد أحسنوا استقباله وأكرموه، وولَّوْهُ رئاسة القبط، وهو الأمر الذي نال استحسان وإعجاب الأقباط بالمسلمين، فأحسنوا التعامل معهم.

جاءت المعركة الثانية بين المسلمين والروم بعد أن علم ملك الروم أن الحامية الإسلامية بالإسكندرية قليلة العدد، فانتهز هذه الفرصة وأرسل ثلاثمائة سفينة محمَّلة بالجنود، وتمكَّن من اختراق الإسكندرية واحتلالها، وعقد العزم على السير إلى الفسطاط، وعندما علم عمرو بن العاص بذلك عاد من الحجاز سريعًا، وجمع الجيش من أجل لقاء الروم ودحرهم، وبالفعل تمكَّن عمرو من قيادة جيشه نحو النصر؛ فكانت الغلبة لجيش المسلمين، ولم يكتفِ ابن العاص بهذا، بل سارع بملاحقة الروم الهاربين باتجاه الإسكندرية، وفرض عليها حصارًا وفتحها، وكسر شوكة الروم وأخرجهم منها، كما قام بمساعدة أهل الإسكندرية لاسترداد ما فقدوه نتيجة لظلم الروم والفساد الذي قاموا به أثناء فترة احتلالهم للمدينة.

أثناء خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه قام بعزل عمرو رضي الله عنه عن ولاية مصر، وولَّى عليها عبد الله بن سعد العامري، عاد بعدها عمرو إلى المدينة المنورة، وبعد مقتل عثمان بن عفان، سار عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان وشهد معه معركة صفين، ولما اشتدَّت الحرب على معاوية أشار عليه عمرو بن العاص بما عُرف عنه من دهاء بطلب التحكيم، ورُفعت المصاحف طلبًا للهدنة، ولما رَضِيَ علي بن أبي طالب بالتحكيم، وُكِّل عمرو بن العاص حكمًا عن معاوية بن أبي سفيان، كما وُكِّل أبو موسى الأشعري حكمًا عن علي بن أبي طالب.

اتفق الحكمان أن يجتمع مَنْ بقي حيًّا من العشرة المبشرين بالجنة ويُقَرِّرُوا مصير قتلة عثمان، ولم يكن قد بقي منهم إلَّا سعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وسعيد بن زيد، وهذا القرار لم يُنَفِّذْه علي، ثم إن معاوية أرسله على جيش إلى مصر فأخذها من محمد بن أبي بكر، ثم ولَّاه معاوية على مصر حتى وفاته.

وحين حضرته الوفاة، ومَرِضَ مرض الموت، دخل عليه ابنه عبد الله رضي الله عنهما، فوجده يبكي، فقال له: يا أبتاه! أما بَشَّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بَشَّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟
فأقبل بوجهه فقال: إني كنتُ على أطباق ثلاث (أحوال ثلاث)، لقد رَأَيْتُنِي وما أحدٌ أشدَّ بغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أَحَبَّ إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه، فلو متُّ على تلك الحال لكنتُ من أهل النار، فلمَّا جعل الله الإسلام في قلبي أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ: ابسط يمينك فلأبايعك.

فبسط يمينه، قال: فقبضتُ يدي، فقال: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قال: قلتُ: أردتُ أن أشترط. قال: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قلتُ: أن يُغفر لي. قال: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟».

وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنتُ أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئِلْتُ أن أصفه ما أطقتُ؛ لأنني لم أكن أملأ عيني منه إجلالًا له،  ولو متُّ على تلك الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة، ثم وَلِينَا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا متُّ، فلا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فإذا دفنتموني فَشُنُّوا (صبُّوا) عليَّ التراب شنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور (الوقت الذي تُذبح فيه ناقة)، وَيُقْسَمُ لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أُرَاجِعُ (أُجاوب) بِهِ رُسُلَ رَبِّي (9).

توفي عمرو بن العاص رضي الله عنه سنة (43هـ/ 663م)، وقد تجاوز عمره 90 عامًا، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 39 حديثًا .. يتبع غدا​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى