السودان جنة الأرض الملتهبة

> يقول الشاعر السوداني بلهجة أهل السودان المحببة للنفس :

مشتاقين لك كثير والله

وللجيران و للحلة

كمان قطر النضال ولى

و غالي علي أدلى

محطة محطة بذكر

سؤالك لي و نحن في المنفى

و بذكر سؤالك لي

ميتين جرح البلد يشفى

و ميتين تضحك سما الخرطوم

حبيبتنا

و ميتين تصفا

مع الاعتذار لشريف محجوب - كما أتذكر - في مأواه الأبدي، إن كان في ما كتبت سقطات أو هنات فالقصيدة من محفوظاتي الذاتية قبل أكثر من أربعين سنة.

و ما أشبه الليلة بالبارحة، فالسودان ينكئ جراحه البالية الجديدة لينزف كما لم ينزف جرح أبدا.

و لا نحسب أن العسكر سبب النزف، ولا المدنيين أو الثورات أو الديكتاتوريات وحدها السبب، ولا التاريخ والجغرافيا ولا الأثنيات أوالقوميات أوالأديان أو اللغات هم السبب، أو التقاطع العرقي العربي الأفريقي في بلد أشبه بقارة، حدوده مفتوحة على ثماني دول لها ما لها و فيها ما فيها.

كما لا أحسب الصراعات على الذهب و المعادن الثمينة وحده السبب.

أو حتى زحف الكوبرا الصهيونية و العم سام لمحاصرة مصر جنوبا، حيث النيل يجري باتساق من الجنوب إلى الشمال حيث العظيمة مصر هو السبب.

و إنما السبب كل السبب هو في هذه العوامل مجتمعة أو بتداخل بعضها في البعض الآخر.

بعد استقلال السودان عام 1956م و تسنم إسماعيل الأزهري الحكم المدني في البلد.

و بدأت الصراعات تعصف بالسودان بين الأحزاب المدنية وبعضها خلفياته الاجتماعية تغور في البنية الطائفية و الاجتماعية مثل حزب الأنصار وحزب الاتحاد (الختمية) ناهيك عن الحزب الشيوعي و اليساريين من ناصريين وبعث، و كل ذلك قبل أن ينبت للإسلامويين الإخوان ناب وظفر.

مع ذكر النقابات و الاتحادات و منظمات المجتمع المدني التي يعلو شأنها فوق الأحزاب أحيانا.

و يقف الجيش في المنطقة الرمادية، فالحكم مطمح له خاصة مع اشتداد الصراع بين المدنين بعد الاستقلال ليستهل الجنرال إبراهيم عبود أول الانقلابات العسكرية في السودان عام 1958م .

و أطبق عبود قبضته الحديدية على الحكم و على شعب نسيجه يكتمل بالتعددية و التنوع ولا يقبل الخنوع. فانفجرت ثورة أكتوبر عام 1964م بقواها المدنية من طلاب و نقابات و منظمات مدنية قبل التحاق الأحزاب بها. وتحرك الشارع السوداني خاصة بعد استشهاد رمز الثورة (القرشي) من القطاع الطلابي، ليزلزل الشعب أركان نظام عبود الديكتاتوري على مدى ثلاثة أسابيع من المظاهرات المستمرة ليطيح بالجنرال الظالم.

و لعل البعض قد رسخت في أذهانهم الملحمة الغنائية التي جسدت ثورة أكتوبر وأصبحت أيقونة الشعب السوداني التي لا تموت بتقادم السنين.

و قد عني تلفزيون عدن بعد الاستقلال عام 1967م بعرضها في المناسبات السودانية المختلفة مما جعلنا صغارا و كبارا نتعاطى مع هذه الثورة عبر الأغنية و كأننا جزء من شعب السودان.

و الملحمة صاغها لحنا الفنان الكبير محـمد الأمين و غناها مع نخبة الفنانين السودانيين أوانئذ، و كتب كلماتها مصطفى خليل و تقول بعض مقاطعها :

و الشارع ثار

و الكل يا وطني حشود ثوار

و غضب الأمة اتمدد نار

و النور في الآخر طل الدار

و العزة اخضرت للأحرار

و هزمنا الليل و هزمنا الليل

وهزمنا الليل

الثوار

انتصرت الثورة ...نعم، لكن الوفاق السياسي بين المدنيين في السودان أشبه بقوس قزح في يوم مشمس بعد المطر تستحبه العين لكنه سرعان ما يختفي.

سقطت تجربة الحكم المدني إثر انقلاب عاصف قاده الضابط جعفر محـمد نميري عام 1969 م و اقتيد رئيس المجلس السياسي إسماعيل الأزهري إلى السجن.

و كان النميري مستجيبا للرياح الناصرية حتى بعد النكسة في العام 1967م مثله مثل جاره العقيد معمر القذافي في ليبيا المجاورة الذي وصل إلى الحكم بانقلاب مماثل في نفس العام .

بينما تجد سوريا و العراق شأنا يغنيهما في فكر البعث و ميشيل عفلق، حيث اتحد الحكم نظريا، هنا وهناك، في ذات الأيديولوجية وافترقا واقعيا بسبب طموح كل دولة في الاستحواذ على زعامة العرب.

كان النميري أقرب إلى ناصر محسوبا على اليسار خالقا حالة شعبوية في ظل قبضة قوية على الأوضاع.

لم يستطع انقلابان عسكريان في التخلص من حكمه.

ثم يخلع قميص اليسار محاكيا الرئيس السادات و مقتربا أكثر إلى أمريكا. و هكذا يستظل العسكري النميري تحت مظلة الفكر الإسلامي للإخوان، فاتحا لهم باب التوغل في الجيش مقابل بقائه في الحكم تحت مسمى أمير المؤمنين واتفاق الطرفين على تصفية القوى الوطنية في الساحة.

لكن ذلك لم يفت في عضد الشعب السوداني الذي خرج في ثورة شعبية عارمة في إبريل عام 1985م دخلت فيها القوات المسلحة السودانية طرفا إلى جانب الانتفاضة الشعبية و أطاحت بأمير المؤمنين، وتولى الحكم المشير عبدالرحمن سوار الذهب، باعتباره الأعلى رتبة في الجيش و الذي قاد بلاده لمرحلة انتقالية انتهت بعودة المشير سوار الذهب إلى ثكنته العسكرية و استلام الأحزاب المدنية الحكم بعد انتخابات ديمقراطية في مايو 1986م.

لكن الإخوان بزعامة حسن الترابي كان لهم شأن آخر، و قد نبت لهم ناب وظفر مذ حكم النميري، وأصبحوا يمتلكون جناحا سريا بين ضباط الجيش قادوا انقلابا على الحكم المدني و الديمقراطية بقيادة العميد عمر حسن البشير في 30 يونيو 1989 م ليظل حكمه جاثما على صدر السودانيين في ظل صراعات في شرق البلاد و غربها و انفصال جنوب السودان و دعم الإرهاب العالمي، و التٱمر على مصر و قيادتها حصيلة لحكم الإخوان للسودان حتى قيام الحراك الشعبي الذي أطاح بالبشير عام 2021م و تدخل الجيش لحكم البلاد و لكن بثنائية يقودها عبدالفتاح البرهان قائد الجيش و دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع و الصدام المدمر بينهما قائما حتى الساعة.

لقد بدأت الدول بإجلاء رعاياها مذ يومين و هو مؤشر مخيف يذكرنا بإجلاء الرعايا من رواندا عام 1994م و أصبحت العاصمة كيجالي مهيأة لحرب أهلية مريرة بين الهوتو و التوتسي، راح ضحيتها فيما بعد حوالي 2مليون أغلبهم من التوتسي في بلد ثرواته من المعادن الثمينةلا تقدر بثمن، مثله مثل السودان الذي يغادره الكل الآن، وعين القوى الكبرى على ثرواته الطائلة من الذهب وسواه.

اللهم الطف بالسودان و أهله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى