الفنان سعودي أحمد صالح..القابض على جمرة الإبداع

> هو واقف كالطود في نقطة الإبداع الوسطى بين العملاق فضل محـمد اللحجي و الأسطورة فيصل علوي، بمزايا التفرد و المغايرة الإبداعية التي لا تكرر نفسها نسخة من آخرين مهما كان التجويد و التجديد في المنسوخ.

في الإبداع ليست النقطة أو المنطقة الوسطى تشويها لجمالية النص الموسيقي، بل هي تعني حرفانية السير و حذاقته أيضا، لصنع هوية فنية بذاتها لا منسوخة ولا ممسوخة.

هي إذن تقرير بأسارير باسمة يقول صاحبها: هذا أنا فمن أنتم؟

كان محـمد عبدالوهاب و أم كلثوم هرمين - وأي هرمين - في القاهرة المعزية وهي تكتض بليال صافية شبيهة بليالي بغداد الرشيد، تفيض عن حوضها الثقافي - كعادة مصر - لتروي كل قلب عربي.

و بينهما - عبدالوهاب و الست - يتمشى في الذوات و الوجدان رجل بملامح ذكية و وجه باسم هو الفنان محـمد فوزي. يهواه الكل و يحبه الجميع و ينشد إليه الذوق الموسيقي الجمعي لأبناء المحروسة و العرب أجمعين. حتى إن (الست) تاقت أن تغني له، فقدم بين يديها بليغ حمدي الشاب بمزايا السحر في الموسيقى و التلحين.

و في حاضرة العبادل حوطة مزاحم بلجفار المحروسة بالله، يحتار الموسيقي الكبير صلاح ناصر كرد في اللحن الذي يقدمه الفتى اليافع سعودي أحمد صالح (بنار الشوق) و الذي لم تمض سنتان منذ اكتشافه.

و كأن الفتى المطل على المشهد الفني من بيت (تفاحة) العريق في الحوطة، يريد أن يبدأ كبيرا قبل أن يكبر بهكذا لحن، سوف يبقى حديث الناس حتى اليوم.

يحتار صلاح ناصر و يقدم اللحن إلى اثنين من كبار موسيقيي تلك الفترة، الأمير عبده عبدالكريم و الأستاذ محـمد سعد صنعاني. فيرتفع سعودي إلى مصاف الكبار صغيرا.

كان سعودي قد انضوى في الفرقتين الموسيقيتين اللحجية و الجنوب، ورأى وسمع الفنان الكبير فضل محـمد، وهو يتألق في فضاء الأغنية اللحجية الجديدة، و يتبوأ مكانة السلطان في عزف العود. فتأثر به و امتلك ناصية العزف على العود كما هو على الكمنجة.

و نكتشف و نحن بصدد "بنار الشوق" اللحن الباكورة، أن اللحجي بطبعه مفطور على الفن حتى وهو في "قماطة".

غنى سعودي لحنه الأول بصوته المستمد من خرير مياه (بيزج) وهي تنساب في أوردة الحوطة في موسم الخير. وغنى اللحن رفاقه من فتية لحج: عبدالكريم توفيق و فيصل علوي و محـمد عوض شاكر ..الخ و نستمع و كأن اللحن ٱت من صلاح ناصر أو فضل محـمد أو عبدالله هادي.

لقد أخرجت الدورة الغنائية الثانية في لحج فنا غنائيا رائعا على إيقاعات الدان اللحجي الخالدة، دون مفارقة للقمندان أحمد فضل بن علي العبدلي ودون تكرار له بالإضافة اللحنية والطربية عالية المستوى التي تزجي و تقوي نهر الإبداع القمنداني، كما تركه صاحبه يوم مات عام 1943م باستلهام التاريخ و ما يضيفه التاريخ في الحياة دون توقف.

بعبقرية فضل محـمد لاشك في ذلك و رفقته الكبار، بمقاييس الفن الذي يبقى بعد فناء صاحبه: عبدالله هادي سبيت و صلاح ناصر كرد و محـمد سعد صنعاني و العبادلة الأفذاذ عبده عبدالكريم و محسن صالح مهدي و رهط آخر من آل منصر وغيرهم.

و هكذا .. عندما يقترب سعودي أحمد صالح من سنديانة الغناء اللحجي الضخمة أحمد فضل القمندان، يضيف بذكاء حذر مسوحات موسيقية راقية إلى رائعة القمندان ذائعة الصيت (غزلان في الوادي) لتأخذ الأغنية بإضافات سعودي الموسيقية و بصوته الشجي بعدا تجديديا غير مسبوق في سفر الغناء القمنداني.

تقول بعض كلماتها:

غزلان في الوادي يا سعد رعيانه

يا ليتني معهم بامرح عسل نوب

يرعون من تين الوادي و رمانه

يا خاطري ما شانك ليش متعوب

حبيت غزلان الوادي و فتيانه

حس الكبد من فراق الظبي ملهوب

و القلب يمسي في شاغل على شانه

يا خاطري ما شانك ليه متعوب .

............. .............

باذلح الغالي لما تقول لي بس

بامسي على بابك و البرد سعبوب

وإن خفت من أهلك باسري معك بالدس

يا خاطري ما شانك ليه متعوب

كانت فرقة الجنوب الموسيقية و أختها فرقة لحج الموسيقية، بمثابة المعهد العالي للموسيقى في لحج، دون تروس أكاديمية و لكن بمهارات فطرية غريزية من العباقرة الكبار.

و كان الصوت هاجس الجميع في بيئة لحجية كلامها غناء. فتلاحق الصغار المغردون في سماء الغناء في لحج وعدن وأبين، منذ اهتدى عبدالله هادي سبيت إلى الطفل المعجزة محـمد صالح حمدون عام 1957م، لتتابع السلسلة الذهبية و تكون ملكة واحد منهم و هو السعودي الكبير اختراقا للعادة بلحنه المبكر المشار إليه آنفا (بنار الشوق) ثم بأغنيات خالدة غناها سعودي أو قدمها على طبق من ذهب لزملائه الفنانين، ومن تلك الأغنيات (يقولوا لي الهوى قسمة) المثيرة للجدل و هي من كلمات الأمير صالح مهدي بن علي العبدلي و تقول بعض ابياتها:

يقولوا لي يقولوا لي

يقولوا لي الهوى قسمة

متى كان الهوى مقسوم

بقضي العمر في نعمة

وأنا اللي في الهوى محروم

تركني ناعم المبسم

على رف الهوى مرجوم

لغيري راح يتبسم

وأنا من بسمته محروم

في قصة سعودي الخالدة لابد أن نقف على ملامح عدن، داخلة في التكوين الموسيقي اللحجي، و كأننا إزاء مدينتي الحوطة وعدن يستقي أودهما من حبل سري واحد.

هكذا كان القمندان داخلا في مشهد عدن الثقافي كما كان فضل محـمد وسبيت والصنعاني وبقية العبادلة أمراء الطرب.

ولذا كان سعودي يجد في إذاعة عدن و تلفزيونها مجاله الحيوي، ليأتلق نوره في فضاءات المدينة الساحلية الساحرة. و كان للموسيقار أحمد قاسم والفنان القدير سالم بامدهف أياد حانية عليه. و ما كان ينقص لحجا بعد زوال الفرقتين الموسيقيتين سوى تكملة فرقة إذاعة وتلفزيون عدن التي أعطت السعودي درجة ممتاز في التلحين.

و حتى في المصير المأسوي المروع كانت عدن حاضرة في حادثة المرور، التي أودت بحياة صلاح ناصر كرد و الفنان العدني علي الفقي و إصابة السعودي و آخرين من لحج وعدن وهم في طريقهم إلى أبين الضلع الثالث للإبداع والفن إلى جانب لحج وعدن.

منذ أن غنى سعودي أحمد صالح أولى أغانيه (كيف أفعل بقلبي) عام 1964م، رفرفت في فضاءات الحوطة وعدن والجنوب واليمن وحتى الخليج العربي عشرات الألحان والأغاني بصوته وأصوات الآخرين ولشعراء مرموقين مثل صالح نصيب و أحمد صالح عيسى و محمود السلامي و أحمد سيف ثابت و محـمد حسين الدرزي و عبدالله الشريف و مازال صاحب الصوت و اللحن الرائع بيننا حتى اليوم مكافحا ظروف الحياة في الحوطة الأثيرة على قلبه، منسيا في وطنه حيث لا شارة لولي في أرضه.

أدام الله عمر سعودي أحمد صالح.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى