مودي الحليف اللدود

> ​في مقال سابق بعنوان "الوجهة الرياض"، كنت قد أثرت مسألة تبلور مقاربة "الواقعية السياسية" في علاقة واشنطن مع حلفاء الأمس والحلفاء المفترضين في قائمة أولويات سياسة الإدارة الحالية في واشنطن في أجواء نظام عالمي متغير ومحكوم بظروف الغزو الروسي لأوكرانيا، واحتمالات إعادة تشكله كمحصلة لمخرجات هذه الحرب.

في تقديري فإن هذه المقاربة البراغماتية كانت إحدى أبرز ميزات الإدارة السابقة التي عمدت مفهوم الواقعية السياسية، وأعلت من شأن المصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة فوق كل المفاهيم التقليدية في واشنطن، بما يعود بالنفع على أميركا وحلفائها.

أعود اليوم للحديث عن "الواقعية السياسية" في مقاربة الإدارة الحالية في ضوء النقاشات التي دارت وتدور حول زيارة الدولة الأولى التي أجراها رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي للعاصمة واشنطن ورؤية الكونغرس والبيت الأبيض لأهميتها، فرموز الديمقراطيين وأعلام اليسار يرون مودي وهو يقف في واشنطن ملتحفاً وشاح الحليف الاستراتيجي، على رأسه تاج من العار وخلفه سجل طويل من انتهاكات حقوق الإنسان، وزيادة تسلط وديكتاتورية وطائفية الحزب الحاكم، وتقليص مساحة الحريات في الديمقراطية الهندية العتيقة.

ممثلو الإدارة الحالية يرون أن البيت الأبيض بات ملتزماً الواقعية السياسية من زاوية أنه ينظر إلى الهند باعتبارها شريكاً مهماً في التنافس بين أميركا والصين، وضمن رؤية أميركا للمنافسة بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، مؤكدين أن الرئيس بايدن اتخذ قراره بالتمسك بالديمقراطية الهندية، حتى لو اعترتها عيوب واضحة، في تعظيم للواقعية السياسية الجديدة في رؤية الإدارة لعلاقاتها وتحالفاتها الدولية، وتحديداً في مواجهة تطلعات الصين التوسعية.

هذه هي الزيارة الثامنة لرئيس وزراء الهند لأميركا، ما بين مشاركاته في الأمم المتحدة، أو زيارات العمل إلى واشنطن العاصمة، فالرجل الذي منعت عنه تأشيرة الزيارة في 2005 تحت لافتة انتهاك الحريات الدينية، ووقوع مجازر استهدفت المسلمين حينما كان حاكماً لإحدى الولايات الهندية، بات يستقبل اليوم بمراسم الدولة الرفيعة التي لم تقدم قبله خلال إدارة بايدن إلا لأقرب الحلفاء مثل الرئيس الفرنسي ماكرون، والرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول.

أربعة ملايين هندي هم ثاني أكبر تكتل للمهاجرين في أميركا بعد المكسيكيين، وقرابة ربع مليون طالب هندي ينظرون بشكل ملتبس لزيارة مودي، فاستطلاعات الرأي بين الهنود الأميركيين تشير إلى انخفاض في شعبيته بنسبة 50 في المئة، إلا أن مودي الذي التقى رموز الجالية الهندية في واشنطن تعمد ممارسة الدبلوماسية الشعبية مع مواطنية أينما وجدوا، وخلال جميع زياراته، لتضخيم شعبيته الخارجية لتعود عليه بالنفع في الداخل الهندي، وتحديداً في انتخابات العام المقبل، مثلما كانت لقاءاته خلال السنوات الماضية مع أبناء جلدته في الملاعب الرياضية الضخمة بمختلف الولايات فيما سمي في فترة الرئيس ترمب مهرجانات "مرحباً مودي".

خلال رحلته الأميركية الأخيرة كان المهاجرون وأبناؤهم حاضرين وبقوة، على رغم استطلاعات الرأي، سواء في نيويورك، حيث أقام مهرجاناً للاحتفاء بيوم اليوغا الهندية، أو بالآلاف الذين وجودوا في حديقة البيت الأبيض للاحتفال بوجوده في واشنطن.

ترتبط الهند بـ18 مليون مهاجر هندي حول العالم لتأكيد خصوصيتها، فعندما اختار الرئيس بايدن كامالا هاريس نائبة له، كان ذلك بمثابة الرسالة المباشرة للهنود، وهذه الحماسة المتزايدة شوهدت الأربعاء الماضي بمطار جون أف كينيدي في نيويورك حينما وجد الآلاف من الأميركيين الهنود حاملين أكاليل من الزهور للترحيب بوصوله.
  • رسائل الرأي العام الأمريكي
قيادات بارزة في الكونغرس ووسائل الإعلام الأميركية كافة سلطت الضوء على زيارة مودي، وتطرقت بإسهاب إلى ما يشبه التوجيه للإدارة بضرورة ألا يغفل الرئيس في أحاديثه الإعلامية عن توجيه النقد المباشر لما سموه التقلص المقلق للمساحة الديمقراطية في الهند، بفعل سيطرة حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المتطرف، وسعيه المتزايد لإنفاذ "قومية الغالبية الهندوسية" التي أطلقوها في وجه 200 مليون مسلم هندي، والأقليات الهندية الأخرى، وانحسار حرية التعبير والصحافة، وقمع المعارضة الهندية، بل وضلوع مودي شخصياً في محاولات ترويض المؤسسات الديمقراطية والقضائية الهندية.

وأكدت رسائل الإعلام والكونغرس معاً أهمية أن يدرك مودي أن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي عضد للدولة الهندية، وأن إضعافها هو إضعاف للدولة الهندية وتطلعاتها المستقبلية.

ومن منطلق قناعة الإدارة الحالية بأن الحديث عن ملفات انتهاكات حقوق الإنسان والملفات الشائكة الأخرى بين البلدين ينبغي أن يبقى خلف الستار وفي الكواليس، وخارج دائرة الضوء، أو كما قال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، إن إدارته يمكن أن تناقش هذه القضايا، لكن ليس بأسلوب إعطاء الدروس، أو محاولة الظهور وكأن أميركا لا تواجه تحديات هي الأخرى.

فضل الرئيس بايدن تناول عموميات الأمر خلال مؤتمره الصحافي المشترك مع مودي مستعرضاً جوانب من أطروحات انتهاكات حقوق الإنسان، مفضلاً استخدام عموميات نظرية حول كيفية عمل النظم الديمقراطية التي يتوجب فيها احترام حرية الصحافة، والحريات الدينية، وغيرها من الحريات الأساسية.

وأشار بايدن بعد لقائه مودي في المكتب البيضاوي إلى أنهما أجريا نقاشاً جيداً حول القيم الديمقراطية، بينما قال مودي "لا مجال في الهند للتمييز على الإطلاق"، في معرض رده على سؤال من الإعلام في شأن التزامه بحقوق الإنسان. وقال إن "الديمقراطية تسري في عروقنا، بغض النظر عن الطبقة والعقيدة والدين والجنس". وبهذا أغلق الستار على الضجيج الذي صاحب الزيارة في هذا الملف.
  • قيمة الزيارة وحجم النتائج
من خلال جردة سريعة لحجم مخرجات زيارة رئيس الوزراء الهندي خلال الأيام الثلاثة الماضية، تتضح أهمية قرار البيت الأبيض، وأهمية الضوء الأخضر الصادر عنه في تحريك كل الملفات لبناء شراكة استراتيجية مع الهند والانتقال بالعلاقة إلى مصاف الشريك الاستراتيجي الرئيس لأميركا في جنوب آسيا.

فقد شملت الاتفاقيات التي تم الإعلان عنها مئات المليارات من الدولارات في مجالات شتى من التعاون في الصناعات العسكرية، وإزالة العقبات أمام المشتريات العسكرية، والبحث العلمي، وتوطين صناعة المحركات النفاثة في الهند، وفي مجالات الذكاء الاصطناعي، والتبادل التكنولوجي فائق التطور، والصناعات المشتركة لأشباه الموصلات، والمشاريع المشتركة لاستكشاف الفضاء.

وتتطلع واشنطن إلى زيادة تعاونها العسكري مع نيودلهي، مع علمها المسبق أن الأخيرة ستواصل علاقات تعاونها العسكرية المتميزة مع روسيا، فيما ستواصل الحصول على النفط الروسي، في عدم التزام بالحظر الأميركي والأوروبي ضد روسيا.

ومع هذا يعتقد مسؤولو البيت الأبيض أنهم تلقوا إشارات على تغير في العلاقة بين الهند وروسيا، وأن هذا يعزز فرص الشراكة الاستراتيجية الأميركية الهندية. وكان رئيس الوزراء الهندي حصيفاً في كلمته أمام الكونغرس الأميركي حينما أسمع الأميركيون ما كانوا يريدون سماعه بقوله إن "الأنظار تتجه إلى أكبر ديمقراطيتين في العالم"، مؤكداً أن الشراكة الاستراتيجية مهمة، وأنه يثق بأن العمل مع أميركا سيكون ناجحاً. فهل قصد مودي تقديم التزاماً هندياً واضحاً، أم إنها مثل رسائل الغرام التي تصاغ على هوى المحبين؟

يعتقد كثر من كتاب الرأي الاستراتيجيين جازمين أن الهند كانت ولا تزال وستبقى صاحبة فكر عدم الانحياز الذي وجدت فيه ضالتها، وهي تقف اليوم ضمن أبرز الدول المتأرجحة في الساحة الدولية، فكما رفضت التورط والانحياز لصالح طرف زمن الحرب الباردة، واستفادت من علاقاتها مع الجميع حينها، وتحولت وبقوة لممارسة الدبلوماسية المتعددة المصالح والمشارب بما يتفق مع حاجاتها، فلن تكون اليوم حليفة لأميركا، وهي تدرك الطبيعة المتغيرة للنظام الدولي.

وليس أوضح مما قاله وزير خارجية الهند جايشانكا أخيراً، في معرض تعليقه على الأمر من أن الهند يجب أن تستفيد "من أكبر عدد ممكن من العلاقات"، لذا فإذا كان ثمة من يعتقد بالزواج الأوحد، فإنه يقول له إن عليه الاستعداد لتلقي مزيد من خيبات الأمل، فقد احتفظت الهند بحقها في مغازلة روسيا وإيران، وحتى الصين، وهي ترعى بذلك مصالحها الوطنية، وما تمليه عليها تلك المصالح في علاقاتها الخارجية.
اندبندنت عربية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى