قصص النازحين في المشافي: ظروف معيشة قاهرة والغالبية تلتحف السماء ليلا وأمطار الشتاء تهددهم

> «الأيام» القدس العربي:

> تعج أروقة المشافي في قطاع غزة بحكايات نازحين فروا إليها من وطأة الحرب الدامية، التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وغالبية ضحاياها من الأطفال والنساء، غير أن جميع الأسر التي تقيم في أروقة وساحات المشافي، اتخذت هذا القرار على أمل النجاة من الحرب، على اعتبار أن المشافي تعد مناطق آمنة لا يجوز المساس بها وقت الحرب، رغم أن قوات الاحتلال لم تلتزم بذلك فحاصرت الكثير من المشافي ومنعت عنها إمدادات الدواء، واستهدفتها بالغارات.

مشاهد الليل والنهار

وفي مشفى شهداء الأقصى وهو كغيره من مشافي قطاع غزة التي لا تزال تعمل، تغير الوضع كثيرا، حتى إن شكل المشفى تغير أيضا، ففي الطرقات والأروقة هناك نازحون اتخذوا تلك الأماكن مساكن لهم، كما يقيم الكثير منهم في ساحات المشفى بعد أن أقاموا فيها ما يشبه الخيام، فيما افترش الأرض من لم يجد مكانا في الأروقة، أو لم يجد ما يصنع به خيمة.

وهناك في النهار يختلف الوضع عما يكون عليه ليلا، إذ ينتشر النازحون في الساحة العامة للمشفى، مع شروق الشمس، حيث تبدأ كل أسرة في البحث عن أي طعام، لتقديمه لأطفالها أو مرضاها من كبار السن، قبل تناولهم الأدوية الصباحية، وفي ساعات الظهيرة إذا ما اشتدت حرارة الشمس، يبحث هؤلاء جميعا عن شيء يستظلون به، فأصحاب الخيام يمكثون بداخلها، فيما النائمون في الأروقة والساحات يبحثون عن ظلال الأشجار، وجميعهم يشتكون سوء الأحوال والمعيشة التي أجبرتهم عليها ظروف الحرب.

جميع من قابلتهم “القدس العربي” لم يتأقلموا مع الوضع القائم رغم طول المدة، والجميع استذكر طريقة العيش في المنازل قبل الحرب، وكيف كان يعيش يومه بخصوصياته مع توفر ما يحتاجه الإنسان الطبيعي، من الأكل والشرب ومكان النوم، وكذلك توفر الحمامات الخاصة، دون أن ينتظر في حياة المشفى كغيرها من “مراكز الإيواء” في طابور طويل بانتظار دوره في دخول دورة المياه.

ومن بين النازحين الذين يقيمون في هذا المشفى كغيره من مشافي غزة، بما فيها تلك التي أجبر نازحوها على تركها مؤخرا مثل الشفاء والقدس في مدينة غزة، عوائل هدمت منازلها جراء الغارات الجوية الإسرائيلية، ومنهم من تعرضت منازلهم لضرر بليغ جراء استهدافات قريبة، وآخرون تقع منازلهم قرب الحدود مع الاحتلال، وعوائل كثيرة قدمت مع أفراد منها أصيبوا في غارات إسرائيلية، فقرروا البقاء إلى جوارهم في المشفى، ومن ثم انتقلوا مع المصابين بعد تقديم العلاج لهم، للعيش كنازحين، خشية من الغارات في الخارج.

البحث عن الأمان

ولم تغادر إلهام حسونة وهي سيدة قدمت من منطقة الزوايدة وسط القطاع مع زوجها وأطفالها الأربعة، وأشقاء زوجها وعوائلهم، المشفى منذ ثلاثة أسابيع، وتقول هذه السيدة وهي في العقد الثالث، إنها وأسرتها والقاطنين في المنزل نجوا بأعجوبة من موت محقق، حين كتب الله لهم الحياة، وتضيف “فجأة وجدنا المنزل يهتز والأبواب والشبابيك تخرج من مكانها والزجاج يتحطم ويتطاير والركام من الحجارة في كل مكان في المنزل”.

وتضيف “وقتها امتلأ المنزل بالغبار الأسود وبرائحة البارود وأصبحنا نتنفس بصعوبة، وبصعوبة أيضا وجدت بعض أطفالي”.

وهذه السيدة تعرض منزلها لكل هذا الدمار البليغ جراء استهداف منزل مجاور، سوته الطائرات الحربية بالأرض، وقتلت من فيه.

وبسبب ذلك القصف تضرر منزل إلهام وعائلتها وأصيب عدد من سكانه، فرافقوهم إلى المشفى. وهناك بعد تقديم العلاجات لهم، وتفقد الأطفال والكبار الذين امتلأت صدورهم ببارود الصواريخ، قررت الأسرة جميعا البقاء في المشفى، خاصة وأن منزل الأسرة لم يعد صالحا للسكن.

وتقيم أسرة إلهام في الرواق القريب من قسم القلب، إلى جانب أسرة أخرى من الجيران، أصابها ما أصابهم، وقد تحدثت عن ظروف معيشة صعبة جدا، لكنها اضطرت إليها مجبرة.

يشار إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية أدت لتدمير أكثر من 30 ألف وحدة سكنية بشكل كامل، فيما تضررت عشرات آلاف الوحدات السكنية بشكل جزئي وبليغ، فيما أجبرت الحرب الإسرائيلية سكان مناطق الحدود على تركها والنزوح إلى “مراكز الإيواء” وكذلك المشافي.

وداخل مشفى شهداء الأقصى الصغير مقارنة بباقي المشافي، لا يوجد مبنى لكل قسم، فأقسام المرضى غالبيتها في مبنى واحد، ويفصل بينها في كل طابق ساحة.

وفي تلك الساحات التي تفصل بين الأقسام، تقيم الكثير من هذه العوائل، حيث تترك طريقا ضيقا لمن يريد المرور للقسم، ولاحظت “القدس العربي” أن كثيرا من الرجال أقاموا على جوانب تلك الساحات، فيما قامت بعض الأسر بوضع قطع من القماش صنعت بها ما يشبه غرفة نوم للسيدات، عرضها لا يتجاوز المتر وطولها أقل من مترين، إذ يجري إسدال تلك القطع ليلا وقت النوم.

وليلا بالكاد يستطيع الشخص المرور من تلك المناطق من كثرة النيام، وفي بعض الأماكن، لا يوجد مكان للحركة، فيما تعج أقسام المنومين في المشفى بالمرضى والمصابين، بعد أن اضطرت الطواقم الطبية لزيادة عدد الأسرة في الغرفة الواحدة وفي ساحة القسم الداخلية، لاستيعاب العدد الكبير من المصابين.

وكانت وزارة الصحة أعلنت في وقت سابق أن المشافي تعمل بطاقة تفوق بأضعاف كثيرة قدرة استيعابها بالشكل الطبيعي، بسبب ارتفاع عدد الإصابات جراء القصف الإسرائيلي والحرب المستمرة.

قصص النازحين

أحد من قابلتهم “القدس العربي” في المشفى كان شابا يجلس على كرسي متحرك، ويسير به أحد أشقائه في ساحة المشفى، سألناه إن كان من الذين لا زالوا يتلقون العلاج أم من النازحين، فقال “كنت حتى أسبوع أتلقى العلاج من الإصابة”، ويضيف “الدكتور كتب لي على خروج (قرر له مغادرة المشفى)”.

وأشار هذا الشاب العشريني ويدعى محمد وتقطن عائلته مدينة دير البلح، إلى أنهم قرروا البقاء في المشفى، لسببين الأول خشية من أن يتعرض هو لمضاعفات صحية، خاصة وأن إصابته تسببت له في كسور وجروح غائرة، ليكون قريبا من مكان العلاج، حيث يصعب الوصول إلى المشافي في هذه الأوقات لعدم توفر وسائل نقل، وبسبب صعوبة الاتصال بطواقم الإسعاف، منذ أن دمرت قوات الاحتلال في بدايات الحرب شبكات الاتصالات، لافتا إلى أن السبب الثاني هو الإقامة في مكان آمن.

غير أن الكثير من النازحين في المشفى، عبروا عن خوفهم الشديد بسبب ما تعرض له من كانوا يتواجدون في مشفيي الشفاء والقدس، والذين أرغموا على تركهما والدبابات الإسرائيلية تحاصرهم من كل جانب، حيث قضى الكثير منهم في استهدافات المشافي قبل المغادرة، وآخرون في طريق النزوح الثاني.

وفي المشفى التقت “القدس العربي” بعائلة كانت قد تركت مشفى الشفاء قبل أسبوعين، أي قبل الخروج القسري الأخير الذي حدث قبل أربعة أيام، هذه العائلة التي تضم رجلا مسنا مقعدا، أقام شبابها خيمة في إحدى زوايا المشفى بمساحة ضيقة جدا، وضعت فيها الأمتعة التي حصلت عليها مؤخرا كمساعدات باعتبارها أسرة نازحة، وتتمثل في بعض الأغطية، فيما وضعت على جانب الخيمة حقائب وضع فيها ملابس، حيث لم يكن في تلك الخيمة -التي قررت العائلة استضافة “القدس العربي” بها لإجراء المقابلة- متسع للجلوس، لتتم المقابلة على جانب إحدى زوايا الساحة العامة للمشفى.

وليلا تتكدس عائلة “زرق” بجوار بعضهم البعض، للنوم في الخيمة، التي يلاصقها من الغرب والشرق خيام أخرى لعوائل نازحة، ويضطر خالد أكبر أبناء الأسرة للمبيت أمام الخيمة، لعدم وجود مكان له في الداخل.

وتحدثت الأسرة عن الواقع المرير، فبعد أن كانت تملك منزلا بطابقين فيه ثلاث وحدات سكنية، باتت تقيم في خيمة لا تتعدى مساحتها مساحة غرفة من غرف المنزل الواسع الذي تركته خلفها في مدينة غزة، دون أن تعرف شيئا عن مصيره في هذا الوقت، إن كان لا يزال قائما أو دمر كمنازل مجاورة.

ويشرح خالد الوضع الحالي، فيقول “توفير الطعام ليس بالسهل، والنوم كذلك”، ويضيف “حين تضطر للذهاب لدورات المياه عليك انتظار دور طويل”.

وهذا الرجل كباقي النازحين في المشفى، والذي قبل بما لحق به مجبرا، يخشى من قادم الأيام، ويقول إن أحدا في غزة لا يعرف إلى أين ستتجه الأمور.

حياة الأطفال

ومن بين المقيمين في المشفى كان هناك أطفال كثر، ليلا وضعت والدتهم أسفلهم بطانية لم تق برد الأرض، ومن فوقهم أخرى لم تق برد السماء، وهؤلاء كانوا قبل نومهم يتحمسون لشروق شمس اليوم التالي بعد انقضاء ساعات الليل الطويلة، للعب قليلا في ساحة المشفى.

ومن بين الأطفال المتواجدين كنازحين في المشفى، من أصيبت عوائلهم وأمهاتهم، في غارات إسرائيلية، وقد وجدوا أنفسهم مضطرين للتأقلم مع ظروف الحياة الصعبة، بالاعتماد على أنفسهم في تدبير أمور الطعام والنوم، فتلك التي كانت تعمل على ذلك تحتاج إلى من يعيلها حاليا على ذلك.

أحد المصابين الذي تقيم عائلته في ساحة المشفى، حيث أصيب هو بجروح خطرة، وباقي الأسرة بجروح متوسطة، جراء استهداف قريب من منزلها، قال لـ “القدس العربي” وهو يروي قصة النجاة من الموت، إن أعمدة خرسانية وقطعا كبيرة من حجارة منزل الجيران تطايرت عليهم، وغطت غرفة النوم التي كان بداخلها بعد منتصف الليل والكل نيام، لافتا إلى أن جسده غطي بالكامل بالركام، وظن أنه سيفقد الحياة، حيث لم يعد قادرا على الحركة والتنفس، حتى وصل له شبان من الجيران بعد 10 دقائق، وبدأوا بالصراخ إن كان أحد في الأسفل، فاستجمع وقتها قواه وصرخ مناديا عليهم.

هذا الشاب قال إنه لم يسمع صوت الغارة الجوية، لكنه شاهد فعلها الدامي، من حيث كم الدمار والغبار الخانق، والجروح التي لم تلتئم بعد.

ويقول من نجوا من الغارات الجوية إنهم لا يسمعون صوت الانفجار، رغم قربه، وإنهم يشاهدون لهبا كبيرا يملأ المنطقة، تبدأ بعده الأبنية بالانهيار والركام بالتطاير.

وأسرة هذا الشاب خرجت بما عليها من أمتعة، حيث دمر القصف المنزل، وتدبرت أمورها في المشفى بصعوبة، ومدها أقارب لها ببعض الملابس، بدلا من تلك التي تمزقت وامتلأت بالدماء.

الخوف من المطر

ورغم قبول النازحين هناك بواقعهم الحالي مضطرين لذلك، إلا أنهم ينتظرون أياما وأوقاتا صعبة، عندما تهطل أمطار فصل الشتاء، ووقتها سيضطر من يلتحفون السماء في الساحات أو من يقيمون في خيام لا تقي زخات المطر، ويمثلون الغالبية من النازحين، للدخول إلى مباني المشفى، ووقتها لن يجد أحد متسعا لموضع قدم، خاصة وأن أروقة المشفى تكاد لا تكفي لمن يتواجدون بها حاليا.

أحد النازحين سألته “القدس العربي” عن الأحوال حال تساقطت الأمطار، فقال “في الوضع الطبيعي الكل كان ينتظر المطر، وحاليا الجميع يخشاه كالخوف من الصواريخ”.

وحال هؤلاء النازحين إذا تساقطت أمطار الشتاء وبردت أكثر درجات الحرارة، سيكون مماثلا لمئات آلاف النازحين في “مراكز الإيواء”، الذين  يقيم جزء كبير منهم في ساحات المراكز المقامة في المدارس، لعدم وجود أماكن لهم في الغرف الفصلية الممتلئة فوق طاقتها بالنازحين.

وتقول المؤسسات الإغاثية والجهات المختصة في غزة، إن عدد النازحين بسبب الحرب يقدر بنحو 1.5 مليون من أصل 2.3 مليون نسمة يقطنون قطاع غزة، من بينهم أكثر من نصف مليون يقيمون في “مراكز الإيواء”، والآخرون يقيمون إما في منازل أقارب وأصدقاء، أو في ساحات عامة أو في أسفل بنايات غير مسكونة، أو في محال تجارية، أو في المشافي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى