مخاطر الصبر الإستراتيجي المصري في البحر الأحمر

> محمد أبوالفضل:

> ​انتشرت في بعض الأدبيات السياسية أن القيادة المصرية تتبع ما يسمى بـ"الصبر الإستراتيجي" في التعامل مع بعض القضايا الإقليمية، وبدت العبارة نوعا من المدح لهذه الطريقة وليس الذم بعد أن حققت نتائج جيدة أو منعت القاهرة من تكبد خسائر.

يبدو أن هذا المنهج لن يستمر طويلا، حيث ظهرت ملامح تشي بإمكانية تفكك القواعد التي بُني عليها عقب اشتعال الموقف في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، إذ شنت الولايات المتحدة وبريطانيا يومي الجمعة والسبت هجوما جويا على جماعة الحوثي في اليمن ردا على تهديداتها للملاحة البحرية بعد الحرب الإسرائيلية على غزة.

رفضت القاهرة الهجمات الأميركية - البريطانية على اليمن بصياغة بها قدر من الدبلوماسية، لأنها لا تريد أن تظهر في صورة من يدافع عن الحوثيين أو يريد الدخول في مواجهة مع الغرب، وهي التي تعاملت مع التحالف الذي أعلنته الولايات المتحدة لحماية الأمن في البحر الأحمر بفتور انطلاقا من فكرتها عن الصبر الإستراتيجي.

تخطئ مصر هذه المرة إذا اعتقدت أن التصورات الأميركية الجديدة في هذه المنطقة لن يُكتب لها النجاح وأن الصبر عليها حتى تنهار أو تأكل نفسها وسيلة مناسبة، مع عدم ترحيب دول البحر الأحمر بتحالف الازدهار والممانعة اللافتة في الانضمام إليه.

يشير تصاعد حدة الأوضاع في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن إلى أن دولا غربية بقيادة الولايات المتحدة صاغت رؤية لمنظومة أمنية، وما قامت وتقوم به واشنطن ليس استعراضا للقوة العسكرية أو استنفارا مؤقتا، وسوف تكون مصر من أكثر الدول تضررا من توسيع نطاق التصعيد أو حدوث تغيير جيوستراتيجي في هذه المنطقة الحيوية، وهو ما تترتب عنه أضرار اقتصادية بالغة في إيرادات قناة السويس، والتي بدأت تظهر في تقديرات سلبية لبعض المسؤولين المصريين.

تفرض التطورات المتسارعة في هذه المنطقة أن تتخلى مصر عما عرف في سياستها بـ"الصبر الإستراتيجي"، لأن النتائج التي يمكن أن تترتب عن جملة كبيرة من التصرفات الأميركية لن تعطي قيمة لنظرية توحي في جوهرها أن الصبر غطاء لعجز ما، أو ارتباك يمكن أن تتكشف ملامحه في المحكات العملية، فمصر المحاطة بتحديات إقليمية جمة تبدو كأنها تنتظر ما لا يأتي لها بسوء أو ما يصبّ في صالحها.

مع كل القوة العسكرية التي تملكها مصر والإمكانيات والقدرات التي تجعلها فاعلا إقليميا رئيسيا، غير أنها تتجنب استخدامها، وإن أوحت بعدم استبعاد اللجوء إلى الخشونة في بعض المرات، فإنها تأتي في إطار الردع، وهو الذي جعل الدول المشتبكة مع مصر في أزمات وقضايا مباشرة أو غير مباشرة لا تهتم كثيرا بردودها الصارمة أحيانا، لأن يقينها في نظرية الصبر وما تنطوي عليه من رهانات إيجابية جزء من سياستها التي تتوقف عند حدود عدم المساس بأمنها القومي.

تعاملت القاهرة بدبلوماسية عالية مع دخول المساعدات إلى قطاع غزة، حتى فوجئت بأن إسرائيل تضع الكرة في ملعبها أمام محكمة العدل الدولية عندما أكدت أنها مسؤولة عن إدارة معبر رفح من الألف إلى الياء، في إشارة تؤكد أن مصر هي من تتحمّل تبعات عدم دخول المساعدات الغذائية والأدوية إلى غزة وليست إسرائيل.

بقطع النظر عن زيف الحجة الإسرائيلية وطبيعة الحسابات المصرية في التعامل مع آليات دخول المساعدات، فإنها جاءت لتعزز أن سياسة الصبر لها خسائر يمكن أن تنجم عن التمادي فيها، وما فعله محامو إسرائيل في المحكمة شاهده العالم واتخذه خصوم مصر ذريعة لزيادة الضغوط عليها، فالصبر على إسرائيل والتوازنات الدولية التي أقامتها القاهرة في هذا النطاق تحولا إلى عبء يفرض تبني خيارات تصحيحية.

سلكت مصر هذا المنهج في كل الأزمات التي مرت بها خلال السنوات الماضية، وقد عصمها من الدخول في مواجهات حادة مع خصومها، في كلّ من: شرق البحر المتوسط وليبيا وإثيوبيا ثم السودان، اتساقا مع قناعة بأن أي تدخل واسع سيكون مكلفا أو “ورطة” عسكرية، وما يمكن تحقيقه عبر هذه الأداة، فالصبر الإستراتيجي كفيل به، ربما حقق هذا التوجه نتائج إيجابية أحيانا، إلا أن وضعه كخيار مهما كان عمق التحديات يقلل من أهميته النسبية، ويمنح القوى المناوئة فرصة نحو توظيفه بالصورة التي تتماشى مع أهدافهم لإحراج الدولة المصرية.

وتؤكد الحصيلة التي وصلت إليها القاهرة من وراء هذه السياسة أنها قاتمة على المدى البعيد، فلا تزال المصالح المصرية في ليبيا قلقة وعرضة لتهديدات من جهات مختلفة، ويمكن أن تتعرض إلى انتكاسة لن تستطيع الدولة مقاومتها بالصبر إذا انفجرت الأوضاع هناك، في الوقت الذي تواجه فيه مصر صعوبات على جبهات إقليمية عديدة.

وما وصلت إليه القاهرة في السودان لا يصب في مصلحتها حتى الآن، فلا هي انخرطت مباشرة بقوة في الأزمة لتفكيكها حربا أو سلما، ولم تجلب سياسة الصبر النتيجة التي يمكن أن تشير إلى مكاسب سوف تحققها في المستقبل، فالترتيبات التي تعد للسودان ليست في صالحها، وما يزيد الشكوك في سياسة الانتظار الطويل أن من سيقبضون على مفاتيح هذا البلد لن يكونوا حريصين على التعاون مع مصر.

كانت أكثر تجليات الإخفاق وضوحا في الصبر الإستراتيجي مع إثيوبيا، فقد تعاطت مصر كل أنواع الأدوية والمسكنات التي تحفزها على عدم قطع حبل المفاوضات، وجاءت النتيجة أن وقفت أديس أبابا أخيرا وهي تفاخر ببناء سد النهضة، وتضع شروطا صعبة في مواجهة كل تحرك تتبناه مصر، حتى أصبح طريق المحادثات مليئا بالأشواك السياسية والاقتصادية والأمنية.

ربما تنتبه القاهرة إلى إدخال تعديلات على منهج الصبر في تعاملها مع الأزمة الناشبة في جنوب البحر الأحمر، لأن تداعياتها تحمل معها كل التهديدات التي سوف تواجهها، في اليمن والسودان وإثيوبيا والصومال، فهذا الممر هو شريان حياة آخر لا يقل أهمية عن نهر النيل، فالأخير معروف أنه يمد المصريين بالحياة، بينما الأول يمد الاقتصاد والأمن بحياة مضاعفة من دونها يمكن أن تصاب الدولة بألم في جزء معتبر من الجغرافيا السياسية وروافدها الإقليمية.

تكاتفت في الفترة الماضية مجموعة كبيرة من التطورات التي تجعل ما يجري في البحر الأحمر وخليج عدن لا يحتمل صبرا أو انتظارا أو مهدئات سياسية، لأن أيّ ترتيبات يمكن أن تنجم عن التصرفات الغربية بعيدا عن القاهرة سوف تفضي إلى نتائج تزيد الوضع الاقتصادي تفاقما في الداخل، وتزيد التحديات في الخارج غموضا.

ما يجري على امتداد على هذه المنطقة يتطلب تصرفات مصرية عاجلة، فردية أو جماعية، لأن المعاني التي تحملها الضربات الغربية كبيرة ولن تتوقف عند لجم الحوثيين أو تكسير قوّتهم العسكرية في اليمن، إذ تبدو ذاهبة نحو ما هو أكبر، ويتعلق بوضع ترتيبات خاصة بالبحر الأحمر تحت وصاية أميركية تمكنها من فرض شروط وممارسة ضغوط على الدول المطلة عليه، وفي مقدمتها مصر التي هي في حاجة إلى وضع رؤية تمكنها من الحفاظ على مصالحها في مضيق باب المندب والمنطقة الخلفية له، فالارتدادات المتوقعة أبعد من البحر الأحمر وخليج عدن.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى