> فخر العزب:
لم تكن خيارات اليمنية هدى حمود، والتي تجاوزت السادسة والخمسين من عمرها، كثيرة، فقد قسى عليها الزمن كثيراً، لكن كل ما فكرت فيه كان تأمين لقمة عيش كريمة تضمن لها الحفاظ على عزة نفسها التي رافقتها طوال العمر، ما جعلها تختار مهنة كانت ولاتزال حكراً على الرجال كونها تحتاج إلى قوة عضلية.
وجدت حمود نفسها في مواجهة مباشرة مع الحياة بعد طلاقها من زوجها الذي ترك لها ثلاثة أطفال، هي التي لا تملك أرضاً زراعية تعتاش منها، ولا عملاً، ولا مالاً، ما اضطرها إلى تحدي العادات والتقاليد المجتمعية، فحملت أسطوانات الغاز في قرية ذي عنقب بجبل صبر في ريف مدينة تعز جنوب غربي اليمن، لتوفير لقمة العيش لها ولأطفالها، من دون أن تضطر إلى مد يدها للآخرين.
لم تجد هدى عملاً آخر تمارسه، فامتهنت هذا العمل رغم مشقة هذه المهنة وصعوبتها، فضلاً عن قلة الأجر. حين تصل السيارة المحملة بأسطوانات الغاز إلى محل بيع الغاز الوحيد في القرية، تكون هدى في انتظارها، فتتولى إفراغ أسطوانات الغاز من على السيارة إلى داخل المحل، وعددها حوالي 110 أسطوانة.

بعد الانتهاء من إفراغ الأسطوانات وترتيبها داخل المحل، تبدأ نقلها إلى منازل الأهالي عبر طريق وعر صعوداً وهبوطاً.
تحمل هدى الأسطوانة التي يبلغ وزنها نحو 25 كيلوغراماً على رأسها إلى منازل المواطنين، وفي طريق عودتها، تحمل الأسطوانة الفارغة إلى محل بيع الغاز بهدف تعبئتها من جديد، وفي مقابل نقل كل أسطوانة من محل بيع الغاز إلى منزل المستفيد، تتقاضى مبلغاً زهيداً يتراوح ما بين 1000 و1500 ريال (الدولار يساوي 2330 ريالاً في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً).
لا ينتهي عمل هدى حمود هنا، إذ تتولى أيضاً حمل الأسطوانات الفارغة من المحل وترتيبها في السيارة تمهيداً لنقلها إلى محطة الغاز كي يتم تعبئتها من جديد.يمتد دوام هدى من الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساء، وتقضي يومها في محل بيع الغاز بانتظار أن يأتي زبون ويطلب منها نقل أسطوانة الغاز إلى منزله.
تقول لـ"العربي الجديد": "صعوبات الحياة جعلتني أقبل بممارسة مهنة الحمَّال رغم أنها من المهن الشاقة التي لا يقدر عليها إلا الرجال نتيجة صعوبتها وحاجتها إلى القوة، لكن مسؤوليات الحياة جعلتني أعمل بها. أحمل أسطوانات الغاز من المحل إلى المنازل، وأتقاضى حوالي 1000 ريال أو أكثر في مقابل كل أسطوانة أنقلها إلى بيوت المواطنين في أطراف القرية، علماً أنني أضطر إلى السير عبر طرقات فرعية وعرة".
تضيف: "هذه المهنة باتت مرتبطة بي، وحكراً عليّ تقريباً، ويصل دخلي الشهري إلى ما بين 50 ألفاً و70 ألف ريال، وهو مبلغ بسيط بالكاد يكفيني لإعالة أطفالي الثلاثة بعد طلاقي من والدهم، وقد منحني أحد أبناء القرية منزلاً للعيش فيه. رغم كل الصعاب، أمارس مهنتي برضا وقناعة".
وتؤكد هدى: "هذه المهنة شاقة وصعبة على النساء، وخاصة على امرأة تقترب من الستين مثلي، لكن الحياة صعبة ولا بد أن نواجهها بتحد وإرادة، والعمل رغم صعوبته، يظل أفضل من مد اليد أو سؤال الناس. اضطررت إلى عيش حياة لا تشبه حياة النساء، وأملي كله في أطفالي الذين أربيهم اليوم ليعيلوني حين يكبرون".ويقول محمد بسام، من أبناء القرية، لـ"العربي الجديد": "ننظر إلى هدى نظرة تقدير وإجلال باعتبارها امرأة مكافحة تأكل من عرق جبينها من خلال عملها في مهنة شاقة تتعارض مع أنوثتها وكبرها في السن، لكنها تقدم لنا درساً في التحدي والكفاح والإرادة والقدرة على قهر الظروف". ويوضح أنها امرأة تكافح من أجل تربية أطفالها الذين أصبحوا بلا عائل باستثناء الأم التي تتقدم في السن والتي لا تزال قادرة على الكفاح. هي بالنسبة إلينا امرأة حديدية وملهمة في كيفية مواجهة قساوة الظروف والحياة".
يضيف بسام: "لا شك أن صعوبة الحياة، والوضع المادي المتردي، وغياب المعيل، وغياب فرص العمل البديلة، كلها عوامل تجعل المرأة تقبل بممارسة المهن الشاقة والصعبة. في الوقت نفسه، تكسر النظرة المجتمعية السائدة حول احتكار الرجال هذا النوع من المهن. فالمرأة، حين تجد نفسها أمام خيار وحيد، تخلع أنوثتها وتتحمل المسؤولية بشجاعة وتمارس المهن الصعبة".
عن "العربي الجديد"