(أبو باشا) كانت ولا تزال صحيفة "الأيام" الغراء التي أسسها العميد محمد علي باشراحيل لذكراه الخلود مدرسة رائدة ومتميزة للصحافة العدنية الحرة، تولى العميد رئاسة تحريرها في إصدارها الأول، ومن بعده تولى ابنه هشام (أبو باشا) رئاسة تحريرها في إصدارها الثاني، وبعد رحيله عن دنيانا لذكراه الخلود تولى أخوه تمام باشراحيل رئاسة التحرير، وإلى يومنا هذا.

(صورة العميد، وهشام، وتمام).

بعد الاستقلال قررت الجبهة القومية الحاكمة تأميم الصحافة، وفعلت ذلك بخشونة وقسوة بكل المطبوعات.. وعند "الأيام" توقفت قليلًا للتأمل.. كانت صفحة "الأيام" وطنية ناصعة، ناصرت قوى الكفاح المسلح ببسالة لنيل الاستقلال الوطني.، ومن بين تلك القوى كانت الجبهة القومية ذاتها، لكن عزمها على التأميم تقرر، وليس في قاموسها عرفان الجميل، بل إن نكران الجميل كان من عزائمها المفضلة.. تقرر تأميم "الأيام" بقدر من اللطف تدخل فيه الأستاذ سالم زين للتسوية، وتقرر ضم ممتلكات "الأيام" لصالح القوات المسلحة.. وانطفأت آخر شموع حرية الرأي، ودخلت البلاد في حقبة ديكتاتورية البدوتاريا!

بعد انقطاع طويل قرر أبو باشا هشام إعادة إصدار "الأيام" على ما في ذلك القرار من عوائق وصعاب وعقبات.، ونجح في مهمته الجليلة، وخرجت "الأيام" إلى النور مرة أخرى من جديد وفي حلة قشيبة.

وكان لي نصيب الكتابة فيها بعمود أسبوعي أرجعني إلى عالم الصحافة بعد طول انقطاع، تمسكت "الأيام" بحق الصدور من عدن فيما اتخذت جل المطبوعات صنعاء العاصمة مقرًا رئيسيًّا لصدورها، وعادت لنا "الأيام"، وكانت لنا أيام.

الوحدة اليمنية كانت شعارًا فارغًا للاستهلاك المحلي منذ استقلال الجنوب إلى أن تحول الشعار الحالم إلى واقع حي بعد أكثر قليلًا من عشرين سنة، وبعد أقل من عقد من الزمن تحول الحلم إلى كابوس، في بداية الوحدة انتقلنا إلى صنعاء التي كان آل باشراحيل قد انتقلوا إليها بعد التأميم، ولنا نحن المنتقلون كان بيت باشراحيل ومقر "الأيام" واحة ظليلة نقضي فيها أجمل سويعات النهار في ديوان القات الملحق بالدار.

في بيت باشراحيل سررت برؤية عميد "الأيام" في صحن الدار بعد سنين طوال.. طويلًا شامخًا بكل حلة أناقته المعتادة وابتسامته التي لا تفارق محياه: سلمت عليه وقال لي بود: قرأت مقالك الأخير، وأعجبني، كان كلامه وسامًا ثمينًا على صدري.. قلت: يا أستاذ أنا لم ولن أنسى كرمك معي يوم خصصت لي الصفحة الأخيرة من "الأيام" أواخر الستينات لنشر مقابلة أجريتها مع الفنان الكبير أبوبكر بلفقية، هز رأسه كمن يريد أن يتذكر.. فواصلت متشجعًا: كما أنك منحتني الصفحة الأخيرة مرة ثانية في حوار أجريته مع الفنانة الصاعدة نادية عبدالله، هز رأسه مجاملًا بكرم زائد، ولم يفارق ذهني محياه المتألق أبدًا.

في الإصدار الثاني "للأيام" كان أبو باشا قد ارتضى لنفسه، ولجريدته السير في حقل مليء بالألغام، كان علي البيض يقول: إن الوحدة ثمن ارتضيناه في سبيل قيمة كبرى هي الديمقراطية. كانت الرياح المتلاطمة من كل اتجاه تتقاذف البلاد بضراوة، وفي مقدمتها كانت "الأيام" صامدة في مهب الريح، وخلفها هشام ممسكًا بكل تحدٍ بصفحات "الأيام".

ذات يوم أغبر مر بـ"الأيام" كان عمر الجاوي ومعه حسن الحريبي من قادة حزب التجمع الوحدوي في الطريق إلى دار "الأيام" وفي لحظة توقف سيارتهما التي يقودها الحريبي أمام بوابة دار "الأيام" ظهرت فجأة سيارة هيلوكس محملة بالمسلحين، اتجهوا نحو الحريبي والجاوي وأمطروهما بوابل من النيران قتلت الحريبي، وأخطأت هدفها الأساسي، الجاوي، أما الصبي الصغير ابن الحريبي الذي كان معهما في السيارة فقد انسل تجاه باب "الأيام" ودخل وفي رجله إصابة طفيفة من شظية أصابته وأسعف في الداخل على الفور، ولى القتلة الأدبار، وكعادة اليمن قيدت القضية ضد مجهول، في اليوم التالي خرجت صنعاء في مسيرة حاشدة احتجاجًا، وسمي الحريبي أول شهداء الديمقراطية التي ماتت بموته، ودفنت مرة وإلى الأبد، لكن هشام باشراحيل أصر على الإبحار في اتجاه الريح وكنا معه نخاف من السقوط عند أول صخرة.

صنعاء واصلت حياتها بنفس جمالها وبهائها الذي ليس له مثيل في أي مكان آخر وأي عاصمة أخرى. لا شيء يشبهها مهما تكالبت عليها الثعالب وتربصت بها الضباع، عند مقهاية شاي العدانية كنت يوميًّا ألقى الأستاذ عبده حسين "كركر جمل" وبعد الغداء والشاي العدني أقله بالسيارة ونذهب إلى المقيل في دار "الأيام": قال لي: كلفني هشام أزكن عليك، بكره الغداء عنده في البيت، وأنا با أكون معك، سيقيم لك مأدبة غداء عدنية على كيفك، لي أنا؟ سألته فقال أيوه لك، ليش تستقل بنفسك؟ هشام يعزك كثير، وأنا أعزه أكثر قلت له. وفي موعد القات أخذت معي شوكولاتة درب التبانة لصديقتي الكلبة لولو التي تقابلني بترحاب شديد، كان النقاش محتدمًا حول دخول صدام وأثر احتلاله للكويت، كان أبو منصور، سفير الكويت حاضرًا كعادته حين يزورنا بعض المرات، قال نجيب الذي كان يهول مقدرة صدام: إن العراق تملك صاروخًا يصل طوله من هنا إلى بير عبيد 3 كيلو!! التفت إليه باشرين مهتمًا وقال: مادام كذا معادش في داعي يضرب به، يكفي أنه يمدده مداد.

أخجلني كرم الأستاذ هشام ومأدبة الغداء الرائعة التي أقامها وحوت أطباقًا كثيرة كنا قد نسيناها من مينيو المطبخ العدني العريق، قلت: هذا كثير يا أستاذ، قال صلي عليه يا شيخ إحنا أهل، والّا نسيت؟ والحق إني كنت قد نسيت، فاسترسل في التفاصيل يذكرني أننا أقرباء بالمصاهرة، أصل الحجة فلانة مع الست فلتانة، والوالد فلان، يقع للشيخ علان، وكذا.. تفاصيل كثيرة استحال على ذاكرتي استيعابها، وبعد الشاي العدني تشرفت بلقاء عقيلته الكريمة أم باشا التي أهدتني قالبًا من أجود قوالب البخور العدني، قالت: هذا من صنع يدي. أثار كلامها دهشتي كما أثاره قبل ذلك لقائي بالسيدة الجليلة الكريمة أم هشام، ومضت بنا الأيام ومضينا بها، في مبرز "الأيام" بعدن أبلغني أبو باشا بدعوتنا إلى ندوة في صنعاء يعد لها اللواء علي الشاطر رئيس التوجيه المعنوي للجيش ورجل الرئيس احتفاءً بمناضلي حرب التحرير وشهداء الثورة.، مسكين الأستاذ الشاطر الذي فقد إحدى عينيه، قيل إن الرئيس صالح فقد أعصابه في ثورة غضب ورمى الشاطر بطفاية سجاير غليظة ذهبت بعينه وأرسل على عجل للعلاج في الخارج.

طلب منا إعداد مداخلات بمناسبة الندوة سنلقيها فيها، فكتبت صفحتين فولسكاب ولم أجد ما أقوله أكثر. تقرعنا في الصباح في ضيافة هشام بمخبازة صيرة، أنا والأستاذ نجيب اليابلي، وعبدالرحمن خبارة، وانطلق بنا أبو باشا بسيارته السوزوكي التي ساقها إلى صنعاء، وفي الندوة الحاشدة التي افتتحها الرئيس صالح وأدار وقائعها الأستاذ حسن اللوزي قدم كل مشارك مداخلته، وجاء دوري بعد الأستاذ هشام، جلسنا بجانب بعضنا، وبدأت قراءة مداخلتي على القوم، وبعد بضع دقائق تصايحت أصوات احتجاج، وساد هرج ومرج بين الحضور، واستقام ضابط ليوبخني على ما صدر عني من كلام في مداخلتي، وأيده آخرون، لكن أذكر أن الأخ أحمد الحبيشي والأخ سالم باجميل دافعا عن حقي في الكلام، وكذلك الأستاذ اللوزي، وكنت قد سكت عن الكلام متوجسًا فطلب مني اللوزي الذي أدار اللقاء بحيادية أن استمر وأكمل مداخلتي ففعلت. وجاء الأستاذ الشاطر وطلب مني نص المداخلة فأعطيتها له وطلبت تصوير نسخة عنها لي ففعل ذلك مشكورًا.. وأعطاني 3 نسخ.

قال لي هشام باشراحيل: يبدو أنك تتعمد إثارة الجدل، وربما الشغب في كتاباتك.

قلت له مستسلمًا: أنت على حق.... ومع ذلك فقد فوجئت فعلًا بنشر نص مداخلتي كاملة في ثلاث صحف في وقت واحد: "الأيام" و26 سبتمبر، والتجمع، ولكن ما أجمل أيام "الأيام".