المتنبي أحمد في خاصرة الزمان المنهار غدًا محاصرًا في بيت لا تستطيع جدرانه ولا حيطانه من تأدية دور السجان، فأحمد حمل من سمات دجلة الخير العميم وتلبس بلبوس النيل الفياض حياة للمصريين وما بينهما كان هو الشاعر الذي تحزنه الحالة العربية وقد غدت خلافة بني العباس ألعوبة بيد القادة الطامحين والطامعين من العجم، ليس كافور الإخشيدي في مصر إلا واحدًا من هؤلاء.

ليس شاعرًا المتنبي تلقي به الأنواء في بلاط أمير أو ملك ليمتدح ما شاء له القريض مدحًا، فترضى نفوس الممدوحين بما نالوه ويرضى المتنبي ببريق الذهب يخرج من راح الأمير نديًّا كما قال جرير والقصد عبدالملك بن مروان:

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

لا، كان الوحيد الذي جعل شوارد الشعر وجنياته مقيدات في رمش عينيه، يأتينه متى شاء لا متى شئن، وينام قرير العين وغيره يسهر ويأرق حتى يكتمل نصاب القريض لديه:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

الحق أقول إن في مدائحه الكثر وهي تمر في حياتنا مر الغمام الممطر، ما أصابه لنفسه منها أكثر مما أعطاه للممدوحين، بفطنة شاعر لم يأت قبله ولا بعده كما أعتقد.

ولعل من فطن إلى معنى المعنى في خابية العبقرية المشرقة للمتنبي العظيم الباحثة الدكتورة حفيظة الشيخ في رسالتها عن المتنبي والتي غدت كتابًا قيمًا فيما بعد، وحازت بنت لحج النابهة بذلك قصب السبق في هذا الأمر المعقد كشخصية ابن الكوفة المتنبي.

نستشف العمق البياني ومعنى المعنى في خرائده الخالدة مدحًا لكافور، كما استشفت ذلك بنت الشيخ قبلا؛ والفضل للمتقدم، ولعلها قصائد خارقة للعادة يكفي أن نستشهد بمطلع هذه:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

بالياء الباكية التي سبقه إليها الحارث اليماني جاهلية وفيها:

وتضحك مني عجوز عبشمية

كأن لم تر قبلي أسيرًا يمانيا

أو هذه أمويا، ومنها:

وقد يلتقي الشتيتان بعد ما

يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

لكن المتنبي يبز الجميع، ويرجف قلب كافور، حتى والمديح يرف فوق رأسه، فالمتنبي حامل قضية قومية: باستعادة المشروع العربي القومي الذي تناوشته حراب القادة العجم من أتراك ومماليك وفرس، ولن يرضى بالإياب من بلاط كافور دون تمكينه من حكم أحد أقاليم مصر كأقل ما يرضاه على طريق المشروع القومي الأكبر.

اعتقد كافور أن يسلم من لسان المتنبي الذي إذا قال حفظ الزمان ما يقول، وتجنبًا لذلك وضعه في ذلك البيت الذي تخطته قصيدته العيدية قبل أن يتخطى هو حدود مصر قفولًا إلى العراق.

وتصيب كلماته: قبل كبد كافور - حركة الزمان والمكان بما يخلد المتنبي عنيفًا وهادئًا حتى تفنى الدنيا، ويلحق بذيله ذكرًا من مدحهم من أمراء التفتت العربي في ذلك الوقت من أبي فراس الحمداني وكافور وآخرين كثر.

ويظل بيته الخالد:

لا تشترِ العبد إلا والعصا معه

إن العبيد لأنجاس مناكيد

أقرب إلى النقد السياسي اللاذع وليس ازدراء عنصريًّا للجنس البشري، لأن الأمر برمته متعلق بتلابيب السياسة وما وعد به ولم ينله، وتأسى على الحالة المصرية المغيبة عن حكم مصرها العظيمة ليعود الأمر إلى عبد مخصي من خارجها:

نامت نواطير مصر عن ثعالبها

وقد بشمن وما تفنى العناقيد.