يعلم المواطنون عن حقيقة الخلافات، أما الاختلافات فهي أمر طبيعي داخل مجلس القيادة الرئاسي على الرغم من كل التصريحات المتكررة والبيانات المملة واستهلاك المفردات التي تتحدث عن "التوافق" و"روح الفريق الواحد" و"وحدة الهدف".

 بينما الواقع هو أن كل هذه الجمل لا تحمل قيمة سياسية حقيقية، وليس لها أثر عند الناس، وصارت مصدرًا للتندر والتهكم، وحتى اليوم لم نسمع عن حوار جاد بين أعضاء المجلس الثمانية حول القضايا "الوطنية" لتحديد مفهوم "الوطن" وحدوده الجغرافية بينهم.

انتظر اليمنيون ولا يزالون منذ فجر السابع من أبريل 2022 أن يختلف أسلوب العمل عما كان في سنوات حكم الرئيس عبدربه منصور هادي الـ10 (2012 – 2022) التي أمسك خلالها بكل خيوط العمل الحكومي عبر مكتبه ونجليه، وأصيبت الحكومات المتتابعة بالشلل، وعمد إلى تعطيل الدستور ومجلسي النواب والشورى، إذ كان مقتنعًا بعدم الحاجة إليهما.

وفي تلك الليلة ساور الوهم المواطنين أن يباشر "المجلس" أعماله من داخل عدن وأن يداوم فيها، وانتظر المواطنون مشروعًا واضحًا وشفافًا وجادًّا ومتواضعًا بعيدًا من الجمل الإنشائية يوضح فيه خططه للسلام أو للحرب، وأن يبين من دون تذاكٍ وبشفافية مطلقة مهمات أعضائه.
  • "المجلس" لم ينعقد في عدن
ما حدث هو أن "المجلس" لم يتمكن من جمع أعضائه الثمانية منذ الـ22 من مايو 2022 إلا في الرياض لمرات قليلة، وبقية اللقاءات كانت تجري باستخدام وسائل التواصل عن بُعد. والمعضلة الحقيقية هي الغموض في كيفية إدارة أعماله، وإهمال اللوائح التي جعلت من مكتب رئاسة الجمهورية قبل 2012 نموذجًا للعمل الحكومي المنضبط والمتابع لكل نشاطات المؤسسات الحكومية وتقديم التقارير الدورية لرئيس الدولة.
 الذي جرى هو العبث بدءًا من التعيينات من دون استخدام التوصيف الوظيفي المعتمد في هيكل المكتب، إلى الحد الذي جعل الناس في حيرة في الأعداد ويتشككون في الكفاءات ولا يقبلون المبررات، والأكثر مدعاة للاستغراب هو سرية قرارات التعيين.
  • الخطر الداهم
الخطر الداهم الذي يواجه كل اليمنيين شمالًا وجنوبًا هو الصراع العبثي غير المتكافئ بين السلطتين الحاكمتين في صنعاء وعدن، فالأولى تمارس سلطة حقيقية بالقمع والقهر والتسلط والبطش ضد كل مخالفيها ومعارضيها، بوهم أن خضوع الناس أمر يمكن له أن يدوم غير مدركة أن دورة التاريخ لا تتوقف عند نقطة بعينها.
وفي المقابل نجد السلطة في عدن عاجزة عن ممارسة واجباتها وغير قادرة على مواجهة التزاماتها، وتعيش حالًا غير مسبوقة من التفكك والعشوائية، وهذا في نظري غير مرتبط بواقع الحرب التي لا أفق لوضع حدٍّ لنهايتها.
وكان المؤمل أن "المجلس" سيجمع الشتات والنقائض ليصنع نموذجًا في الرقعة الجغرافية التي يقول إنه يسيطر عليها، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث بسبب الاسترخاء الذي أصاب معظم أعضاء المجلس الذين فضلوا العيش خارج البلاد على أن يعيشوا بين الناس ومن أجلهم.
  • إعلان برنامج عمل
تكرار الحديث واللعنات على السلطة في صنعاء أمر يسير، وهو في الواقع أقصى ما تفعله السلطة في عدن التي تبدي العجز الفاضح كي تمكن من أداء المهمات التي أنيطت بها سواء في السابع من أبريل 2022 أو بموجب الدستور القائم.

ومن هنا فإن البداية هي في إعلان برنامج عمل معلن يلتزم به رئيس وأعضاء "المجلس" لا يتجاوز القوانين والدستور المعمول به، وعلى الثمانية أن يبينوا للناس جديتهم في العيش معهم وأن يعملوا من أجلهم.
وإذا ما استمر أداء "المجلس" مرتبكًا ومربكًا فإنه يعرض مستقبل البلاد كلها إلى مزيد من أخطار آثار الانقسامات داخله، ولا تخطئ العين المجردة الحاجة إلى التفكير السريع في كيفية الخروج من الركود الذي أصاب العمل الحكومي برمته.

وعلى الرغم من تجاوز عدم دستورية تعيين رؤساء الحكومات من دون تغيير أعضائها منذ 2015، إلا أن ما عزز من سلبيات هذا الإجراء هو الفشل في إدارة المؤسسات وعدم القدرة على إيقاف فوضى التعيينات والإصرار على تقديم معيار الولاء والثقة على الكفاءة والتجربة.

لا شك في أن المواطنين الذين اضطروا للعيش في مناطق "سلطة" الحوثي يتحملون مناخًا قاسيًّا من الترهيب والإسراف في استخدام الاتهامات التي وصلت إلى حد التخوين وإنكار وطنية كثيرين، وكشفت التسجيلات التي جرى بثها على لسان من يطلقون عليهم "الجواسيس" مدى البلادة والتفاهة فيما يصفونها "اعترافات" المتهمين، ومن اليقين أن هذه الأساليب قد تسبب الذعر عند كثيرين لسهولة إطلاق التوصيفات التي يعاقب عليها القانون ضد كل مختلف في الرأي ومخالف في التوجه السياسي والفكري.
  • فرصة "المجلس"
وهكذا فإن ما يدور في صنعاء يقدم لـ"المجلس" في عدن فرصة الظهور ككيان يلتف حوله الناس، وهذا يلزمه في البداية إدراك "الثمانية" أن صعودهم إلى قمة السلطة كان أمرًا مفاجئًا للجميع ولهم أيضًا، ولكي يحصلوا على المشروعية الوطنية فإن عليهم الخروج من رقعة التقاسم المناطقي الضيقة في الوظائف العامة العليا، وأن يقدموا أنفسهم حماة للدستور والقوانين ويبتعدوا عن شبهات الاتهامات الموجهة إلى بعضهم بالانغماس في صفقات غير قانونية.

لقد تأخر "المجلس" كثيرًا في البدء بالعمل المثمر واكتفى بتشكيل لجان لم تثمر أي منها عن نتيجة إيجابية سوى هدر في الإنفاق الترفي على أعضائها، وإذا لم يلحظ الناس سريعًا أي ارتفاع في منسوب الجدية في ممارساته، فإن رصيد الثقة الضئيل والمتآكل به ستنتفي ولن يبقى في صفه إلا المنتفعون ووكالة "سبأ" للأنباء.
اليمنيون في حاجة إلى قيادات توليهم بنزاهة وعزيمة كل وقتها وطاقاتها الذهنية والسياسية، وليسوا بحاجة إلى ما يشبه الباعة المتجولين الذين يمارسون الترويج لبضاعة راكدة.

"إندبندنت عربية"