أحمد السقاف وعمر الجاوي والغزو العراقي للكويت

> ما إن ظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الثاني من أغسطس 1990م حتى كانت الدبابات العراقية قد أكملت احتلال دولة الكويت بعد أن تجاوزت خط الحدود الوهمي بين البلدين وتجاوزت بذلك كل الخطوط المحرمة في قاموس العروبة والإسلام على السواء، وفاتحة الطريق على مصراعيه لمخطط صهيوني إمبريالي قد وضعت أجندته الغادرة على قائمة الأولويات بإعادة تقسيم الوطن العربي المقسم أساسا باتفاقية سايكس/ بيكو 1918م، بعد أن شبت عن الطوق الدولة القطرية العربية وأصبحت دولًا مثل العراق وسوريا ومصر وليبيا تشكل تهديدًا لإسرائيل من وجهة نظرهم.

ليس هناك ما هو أنسب من سياسة الاحتواء المزدوج الغربية التي تمارس مع العرب من فينة لأخرى. مورست مع العراق وإيران أثناء الحرب بينهما، فبينما تتظاهر الولايات المتحدة بالتعاطي مع العراق إيجابًا كانت الاستخبارات الأمريكية وإسرائيل تزودان إيران بالسلاح المشترى من دول أمريكا الجنوبية وإيصاله لإيران ما عرف حينها بـ (إيران - جيت).

وبات واضحًا أن السياسة الكويتية المتوازنة بين الشرق والغرب ورفعها العلم السوفييتي إلى جانب العلم الأمريكي في عز استهداف السفن في الخليج العربي أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، ناهيك عن الضيق الغربي من تجاوز الكويت للخطوط الحمراء المرسومة لعائدات النفط وأين وفي أي القنوات تستثمر، بعد أن دخلت الدولة الخليجية في صفقات مالية ضخمة لشراء حصص في شركات عالمية ومنها شركات تصنيع الأسلحة مما يخولها لمعرفة الاتجاهات السرية والمخفية لمثل تلك الشركات. هذه بحد ذاتها من محرمات السياسة الغربية التي تهندس وترسم مالات المال العربي المتدفق من عائدات النفط.

كنت أسير واجمًا في ذلك اليوم في حي خورمكسر والناس لا يلتفتون إلى معطيات وتداعيات الحدث الذي لم تمض عليه سوى ساعات ولعل جل الناس لم يعلموا به.

دخلت مبنى اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين على ساحل أبين ودلفت إلى غرفة الأستاذ عمر الجاوي فوجدته منشغلًا عن كل شيء حتى عن تحيتي له.

كان يكتب ويتمتم وإذا فرغ من ورقة استدعى أختها للكتابة.

ولما فرغ التفت إلي هاشا باشا كأنه رآني للتو، ثم قال سأقرأ عليك ما كتبته، وشرع يقرأ بصوته ذي النبرة المتفردة، ولما فرغ تطلع إلي وقال ما رأيك؟

قلت له بيان مثير وجريء يا عم عمر وقوي أيضًا ولكن ألا ترى معي أنك سبقت الجميع بما في ذلك الكويتيين؟

قال وهو يمرر يده على لحيته السكسوكة: يا ابني هذا موقفنا كتجمع وحدوي ولن ننتظر الآخرين، ثم إن هذا عدوان سافر لا يقره أحد.

وافقته وأنا أهز رأسي له، ثم تذكرت شيئًا فقلت له: يا عم عمر بنت العم أحمد في البيت ونريدها أن تخرج إلى السعودية مع أخيها أسامة وعائلته. قال:

الآن سأتصل بالإرياني واتصل وبعد أن وضع السماعة قال: السفير باعباد سيذهب إليها إلى المنزل وسيذهب لأخيها لإخراجهم بسيارات السفارة إلى الحدود مع السعودية.

وهذا ما حدث حيث غادر م. أسامة أحمد السقاف وعائلته بينما أصرت ميسون على البقاء في بيتها ووطنها مهما كانت النتائج.

رد الجاوي على الرنين المتواصل للهاتف ثم تدفقت عبارات الغضب منه: لا يجوز أن تصدر صنعاء بيانا لفرع التجمع وأنا الأمين العام المخول بذلك. انتظروني أنا قادم إلى صنعاء الليلة.

التفت إلي وقال: هذا أحمد الشرعبي أصدر بيانًا عن العدوان من صنعاء وهو لا يملك الحق بذلك لأن صنعاء فرع للتجمع وأنا أعرف ما سيكتبونه لن يكون أكثر من مجاملة لصدام وصاحبه.

ثم بصيغة الأمر قم خذ البيان وصوره عند السكرتيرة وخذ نسخة منه لسفارة الكويت (كانت السفارة في خورمكسر مقابل لوزارة المالية اليوم وكانت بعد لما تنتقل إلى صنعاء).

في السفارة المرتبك أهلها قرأوا البيان الذي أخرجهم من حالة الارتباك وجعلهم يكيلون المديح للجاوي وحزبه.

وعلمت فيما بعد من الأستاذ عمر أنهم عرضوا شحنة ورق لطباعة الصحفية كانت في طريقها في البحر إلى الكويت وهم بصدد تغيير خط سيرها لكن صوفية عمر السياسية والأخلاقية جعلته يعتذر عن قبول الشحنة رغم حاجة (التجمع) صحيفة حزبه إلى مثل هذه الأريحية. وقال لي: بعدها طلبت السفارة اشتراك في الصحيفة بعدد ألف نسخة من كل عدد واعتذر أيضًا عن القبول لأنه يدرك أن هذه الهدية هي مقابل بيان التجمع الجريء، قال: لا أريد أن يشتركوا بألف نسخة يقرأون نسخة ويرمون البقية في أروقة السفارة.

كان الجاوي يحمل راية اليسار يمنيًا وعربيًا والأستاذ الشاعر والأديب أحمد السقاف ذو عقيدة سياسية تنبع من الفكر القومي العربي باتجاه مستقل عن الفكر الحركي للقوميين العرب. ونجد ابني الوهط الجاوي والسقاف الذي أصبح رائدًا من رواد الثقافة والأدب في الكويت الشقيق وأمينًا عامًا لرابطة الأدباء فيها، متضادين فكريا - إذا جاز التعبير- في أطروحات كل منهما في أروقة اتحاد الأدباء والكتاب العرب، دون أن يؤثر ذلك في الود الناشئ من صلة القرابة بينهما. لكن - كما كان يحلو لعمر أن يقصه علي - أنهما وصلا حدًّا من الجدال والنقاش وحتى الصراخ في مسألة تقرير مكان إقامة المربد، الجاوي وخلفه عدد من اتحادات اليسار العربي يصر على دمشق أن تكون مقرًا للمربد إلى جانب احتضانها لمقر اتحاد الأدباء والكتاب العرب، بينما السقاف يرى بغداد أن تكون هي مقر المربد وهذا الذي صار وقررته الأمانة العامة للاتحاد.

وعلى طريقة العم عمر في الحديث قال: جزع عمك أحمد كلمته مما جعلني أقول له لأنفس عن غضبي: ابن أخيك هشام يكتب عندي في الحكمة أحسن مما تكتب أنت، فأجاب: لي الشرف أن ابن أخي يكتب أحسن مني، ونعود ونضحك معًا من سرد عمر المتميز لمثل هذه المماحكات العجيبة بينهما.

عندما زار أحمد السقاف صنعاء على رأس الوفد الشعبي الكويتي وجد صنعاء غير صنعاء التي كان يزورها كل عام لتفقد المشاريع الخدمية التي تقدمها الكويت لليمن.

قال لي: آلمني أن تخرج المظاهرات الصاخبة في شوارع صنعاء تأييدًا لجلاد (العراق) وليس للضحية (الكويت).

قلت له: الشعب اليمني يقدر ويحترم الكويت وما قدمته له شمالًا وجنوبًا من مساعدات أخوية صادقة منذ الستينات.

واستطردت: لا تعول على مظاهرات صنعاء فهي للإعلام وللاستهلاك الشعبوي وهؤلاء جلهم من الجيش والأمن بلباس مدني.

قال: من المؤسف أن بلقيس الحضراني كانت في مقدمة الصفوف في هذه الغوغاء وهي التي تربت في بيتي ومع بناتي عندما كان والدها الشاعر إبراهيم الحضراني سفيرًا في الكويت.

قلت له ممازحًا: متطلبات الزوج تتقدم على ذكريات الطفولة، وكانت بلقيس قد اقترنت بقاسم سلام عضو القيادة القومية لبعث العراق.

ثم سألني: هل خرجت مظاهرات مثل هذه في عدن؟ قلت له: إطلاقا.

وكان الوفد الشعبي برئاسته قد بعث إلى الجنوب؛ عدن وحضرموت الدكتور أحمد الربعي عندما استعصى على الوفد بكامل أعضائه القدوم إلى عدن.

وفوجئ الربعي في حضرموت بعدد من الحضارم الذين تركوا الكويت بعد الغزو يسلمونه ودائع ومقتنيات لأرباب أعمالهم الكويتيين أودعوها لديهم قبل سفرهم إلى الخارج كعادتهم سنويا قبل الغزو الآثم لبلادهم.

عن زيارة الوفد الشعبي الكويتي لصنعاء - يحدثني عمر الجاوي - أنه قد دعي بإلحاح لبيت الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الذي لم يتعاطى وحزبه الإصلاح مع الغزو العراقي، حيث استضاف الشيخ عبدالله الوفد في داره، ومع الإلحاح ذهب الجاوي عصرًا (للمقيل) وعندما دخلت - يقول عمر - (الديوان) المكتظ باحثًا عن مكان بعيد عن صدارة المجلس للجلوس فيه لمحني أحمد السقاف وكان جالسًا بجانب الشيخ صاحب البيت فهب واقفًا وهو يوجه كلامه للشيخ عبدالله مادحًا الجاوي وموقفه من الغزو وأنه وأنه ...إلخ حتى استشعرت بالخجل الشديد بينما أفسح لي مكانًا للجلوس بجانبه بكل إصرار فجلست.

لم تمض أشهر حتى بدأت عاصفة الصحراء وتحررت الكويت في يناير 1991م ودخلت المنطقة العربية في طائلة الهيمنة الأمريكية مترافقا مع سقوط المعسكر الاشتراكي وبروز الواحدية القطبية لأمريكا في طور توحشها الإمبريالي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى