شهد الجنوب العربي على مدار عقود صراعات سياسية عميقة، تركت ندوبًا في نسيجه الاجتماعي وأثرت سلبًا على تطلعات أبنائه في بناء دولة مستقرة وقوية. تلك الصراعات، التي تراوحت بين التناحر الداخلي والتدخلات الخارجية، عمّقت الانقسامات وزرعت ثقافة الشك والتنافر، حتى باتت تلك التحديات جزءًا من الواقع الذي يعيشه الجنوب اليوم.
لكن التاريخ يعلمنا درسًا لا يُمحى: الأمم التي واجهت أعتى الأزمات وتمكنت من تجاوزها، فعلت ذلك عبر وحدة أبنائها، ووضوح رؤاها، وصدق إرادتها في التغيير. واليوم، يقف الجنوب أمام لحظة تاريخية فارقة، تتطلب وقفة جادة، وعملًا حقيقيًا يركز على الأهداف الكبرى لا على المصالح الضيقة أو المكاسب الآنية.
الواقع في الجنوب ليس بحاجة إلى توصيف، فهو حاضر في تفاصيل الحياة اليومية للمواطن. تدهور اقتصادي، خدمات ضعيفة، نزاعات سياسية، وتنافس غير صحي بين القوى الفاعلة على الأرض. أضف إلى ذلك التدخلات الإقليمية والدولية التي لا تخدم في كثير من الأحيان سوى أجندات خارجية تزيد من تعقيد المشهد.
الأهداف الكبرى للمستقبل إذا أردنا للجنوب أن يستعيد مكانته، فلا بد أن نحدد أهدافًا واضحة تعمل القوى السياسية والمجتمعية على تحقيقها، وأهمها:
1 . وحدة الصف الوطني:
لا يمكن الحديث عن بناء دولة مستقرة في ظل استمرار الانقسامات السياسية والجغرافية. يجب أن تدرك جميع القوى أن الجنوب لن يكون إلا بكل أبنائه، وأن التناحر الداخلي لا يخدم سوى أعدائه.
تحقيق هذه الوحدة يتطلب مصالحة وطنية شاملة، تُبنى على أسس العدالة والتسامح والمصارحة.
2 . بناء مؤسسات الدولة:
لا مستقبل بدون دولة قوية. ويجب أن تبدأ هذه الدولة من مؤسسات تضمن سيادة القانون، وتحقق المساواة بين المواطنين، وتضمن توزيعًا عادلًا للموارد.
المجلس الانتقالي الجنوبي، بوصفه حاملًا سياسيًا للجنوب، يجب أن يتحمل مسؤوليته في بناء هذه المؤسسات، مع إشراك جميع الأطراف الفاعلة في إدارة المرحلة.
3 . تحقيق العدالة الاجتماعية:
العدالة الاجتماعية ليست مجرد شعارات؛ بل هي ركيزة أساسية لاستقرار المجتمعات. يجب العمل على تحسين حياة الناس، من خلال توفير الخدمات الأساسية، وتحقيق التنمية المستدامة، وخلق فرص عمل للشباب.
4 . استعادة الهوية الوطنية:
الجنوب يتمتع بهوية وطنية فريدة، يجب استعادتها وتعزيزها من خلال التعليم، والثقافة، والإعلام. هذه الهوية ستكون الدرع الواقي ضد أي محاولات لتقسيم المجتمع أو استلاب إرادته.
5 . بناء شراكات دولية متوازنة:
الجنوب بحاجة إلى شراكات إقليمية ودولية تدعمه في تحقيق تطلعاته، لكن هذه الشراكات يجب أن تكون قائمة على الاحترام المتبادل، وتحقيق المصالح المشتركة، دون المساس بسيادة الجنوب أو استقلال قراره السياسي.
لتحقيق هذه الأهداف، لا بد من وضع خارطة طريق عملية، تتضمن:
تأسيس لجنة وطنية مستقلة: تتولى وضع برنامج عمل وطني يشمل المصالحة، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وصياغة ميثاق سياسي جامع.
عقد مؤتمر جنوبي عام: يضم جميع القوى السياسية والاجتماعية لمناقشة التحديات ووضع رؤية موحدة للمستقبل.
إطلاق حملات توعية: تهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية، وتثقيف المواطنين بأهمية المرحلة وضرورة مشاركتهم في بناء الدولة.
تفعيل دور الشباب والمرأة: باعتبارهما الركيزتين الأساسيتين لأي عملية تغيير حقيقية.
في الأخير ، إن الجنوب اليوم أمام خيارين: إما أن يظل أسير ماضيه المثقل بالصراعات، أو أن ينهض لكتابة فصل جديد في تاريخه. المسؤولية تقع على عاتق الجميع، قيادة وشعبًا، في تحقيق هذا النهوض.
المستقبل لا ينتظر المترددين، ومن يريد الحرية والاستقرار لا بد أن يدفع ثمنهما بالعمل الجاد والتضحيات. الجنوب قادر على تجاوز محنته، لكنه بحاجة إلى إرادة صلبة ورؤية واضحة وقيادة حكيمة تعبر به إلى بر الأمان.