في مدينة عدن، حيث تتراكم الأزمات وتتفاقم المعاناة، يرتسم مشهد يثير الحيرة والأسى بقدر ما يثير الغضب. ففي ظل أزمات اقتصادية خانقة، وخدمات متردية وصلت الى الصفر، وعملة وطنية تنهار بلا توقف، وأسعار تحلق في فضاء الجنون، يعيش المواطن العدني جحيماً يوميًّا لا يطاق. ومع ذلك، وفي مفارقة قاسية وعجيبة، يقابل هذا الواقع المرير صمت شعبي مدوٍ، وسكون غريب لا يتناسب أبدًا مع حجم الكارثة.
أن هذا الصمت يفسر بطرق مؤلمة. فهل بات الشعب في عدن راضيًا عن الأوضاع السيئة التي يعيش فيها؟ وهل أصبح قابلًا بالأزمات الاقتصادية والمعيشية والخدمية التي تعصف بحياته؟ وهل هو سعيد بالمعاناة اليومية التي تنهش في كرامته وقوته؟ إذ لا شيء يفسر هذا السكون المطبق، وهذا العجز في التعبير عن الرفض أو حتى مجرد الاستياء، سوى تفسير واحد قاسٍ: إما الرضا بهذا الواقع المرير، أو بلوغ درجة من اليأس والإحباط جعلت الصوت يختنق في الحناجر.
فإن لم يكن الشعب راضياً بهذا الواقع المؤلم الذي يعيش فيه، في ظل الأزمات الاقتصادية الخانقة، وغياب الخدمات، وتدهور سعر العملة، وارتفاع الأسعار الجنوني، فعلى ماذا يراهن في التخلص منه؟ على أي قوة خارجية؟ وعلى أي معجزة سماوية؟ وعلى أي تغيير سياسي سيأتي من العدم؟ أم أنه بصمته هذا، وبسكوته المريب، يسعى لمزيد من المعاناة، ومزيد من التعاسة، ومزيد من البؤس، وكأنه يوقع صك استسلام غير مشروط لواقعه المرير؟
وأي جهة في العالم يمكن أن تتعاطف مع هذا الشعب، وتحس بمعاناته، وتمد له يد العون، وهو لا يحرك ساكناً، ولم يعبر عن استيائه أو رفضه للواقع المتردي الذي يعيش فيه؟ إن الصمت في وجه الظلم والمعاناة لا يولد التعاطف، بل فمن شأنه ان يولد التجاهل، أو حتى الازدراء. فكيف يمكن لأي قوة خارجية أن تفهم حجم الألم إذا لم تسمع صرخة الألم؟ كيف يمكنها أن تعلم بوجود مشكلة إذا لم يروا حراكاً يطالب بالحل؟
ومع صمت الشعب، تزداد معاناته، وتتفاقم الأزمات من حوله، وتزداد الظروف الحياتية تعقيداً وقسوة. ومع مرور كل يوم والشعب ساكت، تتعمق الأزمات وتتفاقم التحديات، فيما يزداد الشعب صمتاً وتخاذلاً تجاه نفسه ومستقبله. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة، ويخترق جدار الصمت هذا: من الذي سينقذ الشعب من هذا الجحيم الذي يعيشه، وهو ساكت وكأن شيئاً لا يحدث له؟
إذا كان الشعب ساكتاً حيال ما يجري له، حيال تدهور حياته، حيال سلب حقوقه، حيال إهمال السلطات المتعمد له، فكيف ينتظر من هذه السلطات نفسها، التي تمعن في تعذيبه وتتجاهل معاناته، أن تنقذه؟ كيف يمكن أن يتوقع منها أن تغير سياساتها وتصلح أوضاعاً لم يعبر هو عن رفضه لها بوضوح وقوة؟ إن الصمت في هذه الحالة ليس حكمة، وليس صبراً، بل هو مشاركة سلبية في استمرار المعاناة، وتفويض ضمني للسلطات لمواصلة نهجها المدمر ضده.
إن كسر حاجز الصمت، والتعبير عن الرفض السلمي للواقع المتردي، والمطالبة بالحقوق الأساسية، ليس ترفاً، بل هو ضرورة وجودية. إنه الخطوة الأولى نحو التغيير، والرسالة الوحيدة التي يمكن أن يفهمها العالم والسلطات على حد سواء. فهل يدرك الشعب في عدن أن صمته هذا هو أغلى ما يدفعه من ثمن، وأن صوته هو السلاح الوحيد الذي يملكه في معركته من أجل حياة كريمة؟