ليالي المدينة الحالمة

> حسين الشيبة ناصر / حضرموت

> سار عبدالله باتجاه جسر وادي بنا كعادته خارجاً من المدينة.. كانت أعمدة النور مضيئة على طول خط الشارع، وكان الوقت ليلاً، وهو ينظر إلى أضواء الفوانيس الخافتة المنبعثة من الأكواخ الخشبية التي لم تدخل إليها مصابيح الكهرباء .. فعاد بذكراته إلى أيام الطفولة عند مجيئه من قريته، التي لا تبعد كثيراً عن هذه المدينة التي أحبها بكل جوارحه ويعشقها منذ نعومة أظفاره، والتي يحيط بها حزام من الأشجار العملاقة الشامخة، وكأنها تعانق وجه السماء تستجلب السحاب والمطر.

تذكر اللعب في الأزقة القديمة وتصاعد أعمدة الأدخنة من على أسطح البيوت الطينية، التي تحمل معها رائحة السمك المشوي .. تلك البيوت التي كانت تمدهم بالدفء في الشتاء، وشيء من البرودة في الصيف الحار .. كانت للأشجار التي في وسط المدينة ذكريات وقصص وحياة، كان أهلها البسطاء يفترشون الأرض ويستظلون بظلالها من حرارة الشمس .. لقد ارتبطت بماضيهم القديم وحاضرهم فكانت لهم الدواء والظل والهواء وأماكن اللقاء والسمر، ومن عرق الموز والباباي وشذى الورد ونسيم البحر تنبعث في أجواء المدينة مع البخور رائحة خاصة بها لا تشبهها أي رائحة في كل مدن الدنيا. تذكر يوم عودته من السفر كيف تغيرت ملامحها عندما اقتلعت تلك الاشجار، وكيف تغيرت الأمزجة والأهواء ولم يعد للشارع الزنجباري نكهته المعروفة.. ماذا صار لمدينة الأبطال والشهداء؟! أصبح الرجال والأطفال يمضغون وريقات القات على الأرصفة والجولات، ويرمون بأنفسهم للموت البطيء الذي يزحف هو الآخر ليقتلع آخر ما تبقى من أحلام الناس.

تذكر منظر السيول القادمة من الوادي وتقليد أغاني الفلاحين والرعاة واللعب بين أشجار الأثل والسدر والأراك. لقد آوت هذه المدينة الخضراء اليتامى من أبنائها وغيرهم، وكم أفرحت قلوب الجائعين والفقراء .. قال بصوت مسموع: لله درّك يا مدينة الفضائل والفضول!

توقف عن السير حينما سيطرت على ذاكرته صورة المرأة المريضة المستلقية أمام بوابة المستشفى، الذي كان يعمل فيه سابقاً، وصرخات أطفالها وهم يستنجدون بالمارين من الزوار والأطباء، ربما لأن الكل كان مشغولاً وهي لا تملك النقود، فلا دواء لها ولا سرير، ومحاولته وهو يبحث عن قيمة الدواء والوقت يمضي، وبينما هو كذلك ماتت المرأة المسكينة في أحضان ابنتها الصغيرة، واستراح جسدها من تعب الحياة، وتوقفت نبضات قلبها الرقيق من عذابات المرض .. أفاق من ذلك المشهد الحزين وعاد إلى بيته تطارده الكوابيس وهلوسة السهر، ولم يعد للأدوية والمسكنات التي أدمن عليها أي مفعول.

عزم عبدالله في تلك الليلة على ترك المعاصي والقات ودخان الموت .. ذكر الله كثيراً فنام، واستيقظ على أصوات المآذن.. صلى الفجر ثم مشى في طريقه وهو ينظر إلى شروق الشمس وأسراب الطيور المحلقة في السماء، وهو يشم نسمات الصباح الممزوجة برائحة التربة والأشجار المثمرة من حواليه، سار خلف الجمال التي تجر وراءها عربات محملة بالقصب الأخضر متجهاً صوب السوق القديم تغمره السعادة التي كان يبحث عنها من زمان. +

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى