لبنان الدرس والتجربة.. هل من يتعظ؟

> عبدالله الأصنج

>
عبدالله الاصنج
عبدالله الاصنج
إن شريط أحداث لبنان الأخيرة التي اعقبت جريمة اغتيال رئيس وزرائه السابق رفيق الحريري يشكل في حد ذاته درساً أخيراً لكل من يفهم أو يريد ان يفهم السياسة وأحابيلها وأن يتعلم من تجارب شعوب ضاقت بأوضاعها وبحكومات فشلت في ادائها السياسي، وعجزت عن فهم المتغير الجديد لشروط لعبة الأمم وبروز عهد الامبراطورية الامريكية. فالوطن العربي في مقدمة أهداف الامبراطورية الجديدة على طريق استبداله بشرق اوسط كبير تهيمن فيه "اسرائيل" على المنطقة، وتحظى فيه تركيا ومصر والهند وايران لو اعتدلت بالقليل من المنافع وفق الادوار المرسومة لكل منها. ولبلوغ هذا الهدف الاستراتيجي للقوة العالمية كان على الإدارة المحافظة في واشنطن وأصدقائها التابعين القضاء على كل ما يمت للتضامن العربي بصلة، واستقطاب أنظمة حكم مترددة ومتساهلة، وأن تحتوي العراق، وتفقد سوريا وما حولها نعمة الاصلاح الداخلي والتحكم في علاقتها بلبنان وتصحيح ما اعتراها من خلل. وفي ضوء ما طرأ من انفجار سياسي على الساحة اللبنانية يصح لنا القول:

ان تمادي نظام الحكم في سوريا في اخطائه وتجاهل الإدارة السورية المقيمة في لبنان مصالح لبنانية واقليمية ودولية ترتبط بقوى خارجية، ويعمل بعضها الآخر في "طابور خامس" موال لقيادات الطوائف فوجد طريقه الى الأليزيه والبيت الأبيض وتل أبيب.

وإن عجز النظام السوري عن قراءة حقائق التحول والمتغير في الواقع اللبناني بعد مرور ثلاثين عاما من دخول الجيش السوري لبنان شقيقا ومعينا ومفرجا قد فقد بريقه ومبرراته بسبب تجاهل الأجهزة السورية حقيقة ان لبنان قد تغير كثيرا وان مكوناته السياسية قد ضاقت ذرعا بالوصاية السورية المهيمنة. وغاب عن دمشق استيعاب ان بيروت بغالبية رموزها قد اختارت طريقا يحقق ما تسعى إليه طوائفها بدعم وتوجيه نظام عالمي جديد يتبنى وفق حاجته ومصالحه طموحات شعوب وأقليات في لبنان وما حوله تنادي حقاً وباطلاً بإحلال سلطة بديلة لما هو قائم ملتزمة بمبادئ الحرية والديمقراطية والشفافية.

وفي هذا السياق تقاعست القيادة السورية عن تلبية دعوات ونصائح عربية وصديقة بضرورة السعي في حينه لبدء حوار انقاذ ما يمكن انقاذه، والمزاوجة بين بنود الطائف وقرار مجلس الأمن. وغاب عن الجانب السوري فهم حقائق واقع لبناني جديد قادر على اشعال حرائق سياسية تنتشر من بيروت وتصل قلب دمشق المثقل بالهموم والهائم بين حليف في طهران يعاني نفس ما تعانيه دمشق من هموم داخلية وتهديد خارجي، وبين قلق من شلل وعجز وهروب عربي لا مبرر له سوى خوف حكوماته من مكائد امريكية "إسرائيلية" أوروبية تطبق عليها من الداخل والخارج.

إنه توجد أنظمة تخشى من فصائل معارضة تطالب بالقليل من الاصلاح والمشاركة بحجة اهمية ملاحقة عناصر ارهاب وتطرف. واعتبار هذه الأنظمة ان القضاء على هذه العناصر يأتي في المرتبة الاولى ومن ثم بالإمكان الحديث عن ادخال الإصلاح ثانيا.

لقد انتظرت الحكومات المعنية بالشأن العربي والمستقبل الأحسن للأمة طويلاً وسقطت البوصلة السياسية التي غابت عن اكثر صانعي القرار في عالمنا العربي والإسلامي وسادت أجواء الشكوك في علاقات الأشقاء والاصدقاء. واختار قومنا الانتظار عسى ان تحصل معجزة، وخاب الأمل وانفجر بركان غضب في لبنان بعد طول صبر على وصاية سورية تحرمه من نسمة الديمقراطية ونعمة الاستقرار.

وتعالت صيحة الشارع اللبناني بوتيرة واحدة وانطلقت صرخات مدوية بعد همسات على ألسنة زعماء مسلمين وموارنة ودروز، وكذا ارثوذكس في توليفة سياسية ترقص على مأساة الشهيد الحريري بإيقاع من باريس وواشنطن ولندن وجميعها تدعو الى كسر القيد السوري وجلاء عسكر سوريا عن البقاع وكل شبر من ارض لبنان فورا.

وعلى الرغم من مؤشرات عاصفة سياسية يلوح غبارها في سماء لبنان فقد استمر الموقف السوري حذرا ومبررا التمسك بثوابت سياسية تجاوزتها المرحلة وتخلى عنها الفلسطينيون في أوسلو، ومن قبل المصريون في كامب ديفيد والاردنيون على أثرها. ولحقت بهم على مدى أعوام قوافل العرب من المحيط والخليج.

لم يعد في صف سوريا المعزولة عن محيطها العربي من يدافع عنها ويدعو الى إشراكها كطرف أساسي في أجواء سلام الشرق الأوسط بل أضحت موضوعا للإدانة الدائمة المعلنة امريكيا وأوروبيا وسط صمت عربي يحكمه قول مشهور "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، و"يا قوم لا تتكلموا ان الكلام محرم"!

ومن الدوحة الى القاهرة فالرياض أقلع الرئيس بشار الأسد بالطائرة بحثاً عن مخرج جميل. واختصارا للوقت وتفاديا لشرح يطول وفيه الكثير من تقليب المواجع لا بد لنا من تسليط أضواء كاشفة ليستبين القارئ العربي المفجوع بشجاعة ومصداقية أنظمته التي تتوزع الأدوار بين متواطئ مع المحافظين الجدد من دراويش الامبراطورية الأمريكية والادارة والكونجرس واللوبي الصهيوني المتحكم في مفاصل الادارة الأمريكية، وبين حائر منها وخائف من الجماهير يتمنى العقلاء قدرا من الاصلاح وترتيباً لأوضاع داخلية اساسها الشورى والمشاركة المسؤولة في السلطة وتنظيف دوائر حكومية من الفساد والاستبداد واحتكار موارد الأوطان.

ان لسان حال حاكم ومحكوم يردد اليوم قول الشاعر "رب يوم بكيت منه ولما صرت في غيره بكيت عليه".

وللخروج من عنق الزجاجة التي ينحصر في اسفلها حاكم ومحكوم لابد من الاقرار بما يلي:

* اولا: ان الموقف خطير للغاية ولا بد من صحوة بعد غفوة. وبداية نتمنى ان يتفق أهل الحل والعقد على إصدار اعلان عربي شجاع وسريع يدعو الى ارساء أسس شجاعة للتعامل مع الضغوط غير المسبوقة التي تتعرض لها الشعوب والحكومات من دون انتظار لقمة الجزائر، فالوقت من ذهب. ويتبع القادة الاجلاء اسلوب المجاهرة بالحقيقة للشقيق السوري وفاء لأمانة في اعناقهم، فعواقب اختيار الصمت والمهادنة قد أوصلتنا الى حافة الهاوية.

* ثانيا: ان اعلان التصدي للهجمة المرتقبة ضد سوريا باعتبار ان مثل هذا الاعلان يقدم فرصة لردم الهوة وتعزيز الثقة الغائبة عموما بين حاكم ومحكوم، ولا بد ان يؤكد الاعلان على موقف عربي رسمي وشعبي يرفض كل تحرك أو مجرد التلويح باحتمال وقوع عدوان امريكي "إسرائيلي" ضد سوريا سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا. ويدعو الاعلان في الوقت نفسه سوريا الى الخروج من لبنان قبل اجراء الانتخابات النيابية فيه. ويدعو ايضا مجلس الأمن ضمنا الى اصدار قرار بإجلاء "اسرائيل" من الجولان ومزارع شبعا تنفيذاً لقرارات سابقة تجاهلتها "اسرائيل" وأوقفت الالتزام بها واشنطن ولندن وأوروبا المراوغة وأصابت جهود السلام بمقتل.

* ثالثا: لا بد ان يتضمن اعلان القيادات العربية المنشود إلزاما عربيا بعدم مواصلة التطبيع مع "اسرائيل" وابلاغ كوفي أنان والاتحاد الأوروبي وأمريكا بأن هذه الخطوة تتوقف اولاً وأخيراً على انهاء الاحتلال الصهيوني وتفكيك المستعمرات والمستوطنات "الاسرائيلية" في الأراضي الفلسطينية والتعويض الكامل عن تدمير "اسرائيل" للممتلكات وقتل الكثيرين من شعب فلسطين واطلاق الأسرى والسجناء من أبناء فلسطين في سجون "اسرائيل"، واعادة جمهور الشتات من شعب فلسطين أسوة بشتات اليهود من مواطني أوروبا وافريقيا وامريكا وكندا وروسيا الذين لا سند شرعيا يبرر لهم حق العودة يوازي الحق الشرعي المتوافر وفق شرائع السماء وقوانين الأرض لأبناء فلسطين اللاجئين في البلاد العربية والأجنبية. لقد آن الأوان للأمة وحكامها الراشدين ان يقفوا بشجاعة قبل ان تأتي هجمة الامبراطورية على الأخضر واليابس والصامد والمستسلم.

وليتذكر العالم من حولنا ان حكوماتنا وشعوبنا قد تجاوبت وتعاونت مع شروط ومتطلبات سلام عادل وشامل في الشرق الاوسط ولم تحظ توسلات بعض الأنظمة العربية باستجابة تذكر من الجانب "الاسرائيلي" الذي يعتمد على دعم امريكي وأوروبي غير مسبوق. واستطاع شارون ان يخطف ظروف مأساة جريمة 11 سبتمبر/ ايلول في نيويورك التي ارتكبتها مجموعة من المتطرفين من اتباع "القاعدة" وأفرزت وبالاً على المسلمين الآمنين في العالم. وتراجعت على اثرها مواقف وثوابت عربية وإسلامية في ضوء تهديدات دراويش الأسلمة وارتكابهم جرائم عنف وقتل ونسف وتحريض ضد الحكومات ومؤسساتها في اكثر من بلد عربي وإسلامي مما ساعد شارون وحلفاءه على توظيفها ضد مكونات المقاومة الفلسطينية والانتفاضة المجيدة وكلف المجتمعات العربية والاسلامية الكثير من الدماء الزكية والأموال الطائلة وضياع فرص التنمية والتصحيح والاصلاح.

والمحصلة ان انساقت أوروبا بعد امريكا ولحقت بالجميع دول عربية وإسلامية ليسود منطق شارون على كل حق مشروع للأمة في تحرير فلسطين واصلاح ما أفسده نظام صدام في العراق وعهد برويز مشرف في باكستان، والملا عمر في افغانستان وكشمير. وسقط النظام العربي والإسلامي امام رياح الترهيب والترغيب واستسلم الصغير والكبير فيه لشروط اللعبة السياسية في عهد الامبراطورية الامريكية الجديد.

وها نحن العرب والمسلمين نعيش ساعات حرجة.. فهل نكون او لا نكون؟ سؤال تصح الاجابة عنه بالقول اننا باقون لو اتخذنا موقفا شجاعا يعلن دون لبس او غموض أن العدوان على سوريا أمر مرفوض قطعياً. وان الاصلاح والمشاركة في إعادة صياغة مكونات الحكم في سوريا وإنهاء الوجود السوري في لبنان خطوات تكمل بعضهما بعضا على طريق سكة السلامة والاستقرار بالإصلاح الشامل على امتداد الوطن العربي.

وان للسلام الشامل في الشرق الاوسط وجهين وليس وجها "اسرائيلياً" فقط. واعتبار ان اجلاء الاحتلال والمستوطنات "الاسرائيلية" عن كل شبر من اراضٍ فلسطينية هو مفتاح باب تلج منه دولة فلسطين قادرة على لجم المقاومة بقوة القانون والدستور وفي ظل ديمقراطية السلطة ونزاهتها وعفة يد ولسان القائمين عليها. وان سلامة سوريا واستقرارها يعتمدان على انسحابها من لبنان اولاً واصلاح الخلل في تركيبة السلطة وفتح باب المشاركة امام مواطنيها من دون انتقاء أو قيود ثانياً. وأن تقف، في ضوء ما سبق، مصر والسعودية والمغرب والجزائر الى جانب سوريا ضامنة لها ومتضامنة معها دون تردد.

وان يصدر عن قمة الجزائر ما يؤكد التمسك والتصميم على ما ورد آنفاً ان الجميع من العرب والمسلمين (الحاكم والمحكوم والشعوب) يقفون وراء استقرار العراق وطناً واحداً للعرب والأكراد والتركمان في ظل حكم دستوري وحقوق مواطنة متساوية. وان تدعو قمة الجزائر الى التضامن مع جهود السلام في ارجاء السودان الشقيق ليبقى وطنا بحقوق مواطنة متساوية لكل أبنائه في ظل ديمقراطية حقيقية ودستور يضمنها من دون قيود.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى