إستراتيجية الأجور .. كثير من الأسئلة وقليل من الإجابات

> د . عيدروس نصر ناصر

> سنوات عديدة مضت وموظفو الدولة في القطاعات المختلفة ينتظرون بفارغ الصبر ذلك القادم السحري، الذي سوف يحل ما يؤرقهم من مشكلات ويقضي على ما يعرقل عطاءاتهم من معوقات، هذا الكائن المسمى بـ «الاستراتيجية الوطنية للأجور» التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة.

وعندما نشرت الصحافة مشروع هذه الاستراتيجية مرفقة بمشروع قانون نظام الوظائف والأجور والمرتبات، أضافت بذلك المزيد من الأسئلة فوق ما كان عند الموظف، ولم تجب إلاّ على القليل من تلك الأسئلة.

وكل من اطلع على هذا المشروع الذي جرى تقديمه لمجلس النواب - وهو موضوع دراسه لدى لجنة القوى العاملة بالمجلس - يستطيع أن يتفهم ذلك المأزق الذي وضع فيه النواب واللجنة المختصة على وجه الخصوص، فالنواب كما هو حال، كل من تعنيهم قضية الأجور كانوا يتوقعون أن تأتي الاستراتيجية ومعها مشروع القانون لتصنعا الحل للمشكلات المتعددة التي ترافق سياسة الأجور والمرتبات في هذه البلاد وما يكتنفها من اختلالات وعيوب جعلت العاملين في جهاز الدولة يتنهدون ألماً على حالهم التعيس وحظهم السيئ، غير أن ما حصل هو أن هذه الاستراتيجية قد جاءت بما يشبه المتاهة التي يمثل الخروج منها بطولة تستحق المكافأة الكبيرة.

ففي الوقت الذي تتناول فيه الاستراتيجية منطلقاتها بلغة زئبقية عصية على اللمس والإدراك والتناول وتتكلم عن جملة من المبادئ الجميلة والأهداف السامية، فإنها عندما تنتقل إلى التفاصيل تكاد تصيب المتتبع بالصدمة العنيفة، ويأتي مشروع القانون ليضيف المزيد من الأسئلة والمزيد من الغموض ليشكل كل ذلك خيبة أمل جديدة فوق ما عند الموظف الحكومي من خيبات سابقة.


أسئلة بلا إجابات:
كل من قرأ مشروعي الاستراتيجية والقانون لا يستطيع إلاّ أن يخرج بمزيد من الأسئلة.. مثل:

1- ما المقصود بخط الفقر الذي يقول المشروع إنه سيكون الهدف من تحديد الحد الأدنى من المرتبات؟ فهناك خط الفقر الغذائي وهناك خط الفقر المطلق، وهناك خط فقر بالمعيار الدولي وهناك خط فقر بمعيار مختلف من بلد إلى آخر، فمعيار خط الفقر في السويد يختلف عن معيار خط الفقر في الصومال أو السودان؟

2- كيف سيتسنى تحقيق هذه الغاية في حين تتحدث الاستراتيجية عن إحالة الآلاف من العاملين إلى الشارع من خلال فصل الموظفين المنقطعين (ومعظم المنقطعين لم ينقطعوا إلاّ لأسباب قهرية أجبرتهم على البقاء في منازلهم وليس حباً في الانقطاع أو تمرداً على النظام) أو الإحالة إلى صندوق الخدمة المدنية تمهيداً للاستغناء عن خدماتهم؟

3- وكيف ستتحقق هذه الغاية ومصادر تمويل هذه الاستراتيجية هي نفس المصادرالراهنة للأجور والمرتبات؟ وتتمثل في الزيادات السنوية والعلاوات والترقيات التي سيتم تجميدها خلال فترة تنفيذ الاستراتيجية، تخفيض 50% من مصرحات المكافآت والإضافيات للعام 2005م، ثم الوفور التي ستحقق من جراء تخفيض العمالة.

4- وهناك أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذهن كلما تطلع القارئ في نصي المشروعين، مثل كيفية التوفيق بين جذب الكفاءات الجيدة، وحفز الموظفين على المساهمة في الأداء المتميز للخدمة المدنية من ناحية، ومن ناحية أخرى إيقاف أي زيادة في العلاوات خلال فترة تنفيذ الاستراتيجية؟ أو كيف يمكن التوفيق بين بناء جهاز حكومي كفء وفعال قادر على تقديم الخدمات النوعية ذات المستوى العالي، وبين إيقاف منح العلاوات والزيادات لكل من تجاوزوا الحد الأعلى للأجور خلال فترة التنفيذ (والكل يعلم أنه لم يعرف بعد ما المقصود بالحد الأعلى؟ ومن الذين تجاوزوا هذا الحد؟ كما نعلم أن أعلى الأجور في بلادنا تمنح للوزراء ونوابهم وأعضاء مجلس النواب والمحافظين وهم مستثنون من هذا القانون كما ورد في النص) ويتبقى كبار القادة العسكريين في أجهزة الدفاع والأمن، الذين لا أحد يعلم ما هي الحقوق والعلاوات والامتيازات التي يتحصلون عليها أو يحرمون منها حتى يمكن مقارنة مكانتهم من هذه الاستراتيجية؟


تشريع التمييز السياسي في الحصول على المستحقات
ومن أكبر المآخذ على المشروعين هو التركيز على معيار واحد ووحيد لسياسة الأجور والمرتبات، وهو «ربط الراتب بالوظيفة ونوع العمل في إطار الإدارة الفاعلة للموارد البشرية» (الفقرة 6 من المبادئ العامة) وهذا المبدأ يفتح الباب واسعاً وبالقانون لتسييس الوظيفة وممارسة الظلم على شرائح واسعة من العاملين في أجهزة الدولة المختلفة، فالكل يعلم أن الوظيفة أو المنصب في بلادنا لا تخضع لمعيار الكفاءة وفترة الخدمة والنزاهة والمؤهل العلمي بقدر ما تخضع للمحسوبية والعلاقات الشخصية والانتماء السياسي، ويأتي إقرار هذا المبدأ ليقنن للمجاملة والمحسوبية ولتسييس الحقوق والعلاوات والامتيازات.

ومن بين أخطر ما اشتمل عليه مشروعا الاستراتيجية والقانون هو النص على منح الزيادات للموظفين الذين يشغلون وظيفة فعلاً و«تجميد مرتبات الموظفين الذين لا يشغلون وظيفة في وضعها الحالي» (الفقرة 1 من «عاشراً» قضايا تنفيذية)، والكل يعرف أن معظم (إن لم يكن كل) الذين لا يمارسون مهام معينة هم من المستبعدين من الوظائف الحكومية بمختلف مستوياتها لأسباب سياسية، فهم لم يطلبوا للعمل ورفضوا الحضور، لكن الكثير منهم من قضى سنوات متردداً من إدارة إلى أخرى ومن موظف إلى آخر، بحثاً عن مهنة يمارسها، فرفضتهم المؤسسات الحكومية والكل يعلم أن معظم هؤلاء هم من أفضل الكفاءات الإدارية والاقتصادية والقانونية والهندسية (مدنيين وعسكريين) عندما يأتي القانون ليحرمهم من حقهم المكتسب ويعاملهم كالمنبوذين أو الخارجين عن القانون، فإننا نكون بذلك قد ظلمناهم مرتين مرة بإبعادهم عن أعمالهم بدون وجه قانوني ومرة ثانية عندما انتزعنا منهم حقاً هم يستحقونه واكتفينا بمنحهم المرتب الحالي (الذي لا يعلم إلاّ الله كم ستكون قيمته الفعلية ليس بعد ست سنوات موعد الانتهاء من تنفيذ الاستراتيجية ولكن بعد سنة أو سنتين من بدء تنفيذ الاستراتيجية)، عقاباً لهم على تقبلهم الوضع المهين الذي وجدوا أنفسهم فيه رغماً عنهم.

إن من حق الحكومة على الموظف أن تستدعيه إلى العمل وتسلمه مهمة وظيفية معينة، فإن لم يلتزم بالحضور أو قصر في أداء واجبه فمن حق الدولة أن تعاقبه أو حتى تفصله عن العمل وفقاً للقانون، أما أن تبعده ثم تأتي لتعاقبه لتقبله هذا الإبعاد القسري فذلك ما لا يقره عرف ولا عقل ولا قانون.

وفي الأخير تنبغي الإشارة إلى أن أي إصلاح للأوضاع الاقتصادية أو للوظيفة العامة لا يمكن أن يكتب له النجاح إذا ما تم بمعزل عن سياسة عامة واستراتيجية متكاملة لمحاربة الفساد والكف عن العبث بالمال العام، لأنهما (الفساد والتلاعب بالمال العام) يمثلان السرطان الذي يقضي على كل محاولة لإصلاح الأوضاع المالية والاقتصادية والوظيفية مهما كانت الأهداف والوسائل.

وخلاصة القول أن ما احتواه مشروعا استراتيجية الأجور وقانون نظام الوظائف والأجور والمرتبات، يمكن أن يصيب العين التي أراد أن يكحلها بالعمى الأبدي، وهو يقدم مشكلات أكثر مما يقدم من الحلول، وأسئلة أكثر مما يقدم من الإجابات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى