مفردات التغيير الروسي

> د. هشام محسن السقاف

>
بوريس يلتسن
بوريس يلتسن
بوريس يلتسن شخصية كاريزمية مثيرة للجدل، والانطباع الثابت لدى الكثيرين خارج روسيا، قد تأصل من خلال ما تكوّن لديهم من معلومات عن الرجل أثناء فترة حكمه لروسيا الاتحادية، أما الذين عايشوا أحداث الجمر المثيرة في روسيا المتوثبة إلى انعتاق مشرف من إسار الحزب الشيوعي والتائقة إلى خروج مرض إلى الدنيا من وراء الستار الحديدي الذي عزل الشعوب الروسية سبعين عاماً قد رأوا كيف استطاع بوريس يلتسن استثمار الحالة الجماهيرية وأن يتحدى بجرأة الحزب الشيوعي مستنداً على دعم جماهيري كاسح يوم أن قدم استقالته علنا ًمن الحزب داخل قاعة المؤتمر العام الثامن والعشرين وأمام عدسات التلفزيون في مشهد غير مسبوق في الحياة السياسية السوفيتية، مما رفع من أرصدة يلتسن في الشارع الروسي والمباهاة به كبطل قومي.

ميخائيل جورباتشوف
ميخائيل جورباتشوف
ويذهب بعيداً صاحب الشعر الأشقر في تحديه للحزب الحاكم عندما خاض الانتخابات الرئاسية لجمهورية روسيا الاتحادية في ظل الاتحاد السوفيتي، ويحقق نصراً كبيراً على منافسه، وتصبح شرعية يلتسن داخل روسيا الاتحادية شوكة داخل حلق الاتحاد السوفيتي وزعيمه ميخائيل جورباتشوف بالكيفية التي أفرغ بها يلتسن الاتحاد العتيد من أهم مقوماته - وهي روسيا الاتحادية- ثم يضع أولى اللبنات في حياة روسية جديدة تضاهي ما لدى الغرب من تقاليد ليبرالية، تسبق وتحرج في آن إصلاحات غورباتشوف، الذي وقع بين مطرقة يلتسن وسندان الحرس القديم في الحزب الشيوعي الذين لم يتوانوا عن تحريك الجيش وإنزال الدبابات إلى شوارع موسكو وإقصاء زعيم الحزب جورباتشوف الذي كان في شبه جزيرة القرم (يالطا) للاستجمام، وغدت هذ المغامرة التي هزت روسيا يومي 18 و19 أغسطس 1991م آخر الأوراق -أو هي بمثابة الكي الذي هو آخر العلاج -التي لجأ إليها أعداء الديمقراطية لوقف رياح التغيير التي هبت على روسيا من كل حدب وصوب. ومرة ثانية ينقلب السحر على الساحر لصالح بوريس يلتسن الذي تصدى للدبابات بالدروع البشرية «الموسكوفية» وأبدى صلابةً في مواجهة الانقلابيين الذين ما لبثوا أن تقهقروا بعد أن والت يلتسن قطاعات كبيرة من الجيش، وأصبح يلتسن الزعيم الجديد لروسيا التي تنفض يدها من الاتحاد السوفيتي ومن زعيمه جورباتشوف الذي أصبح لا مكان له في الكرملين.

فلاديمير بوتن
فلاديمير بوتن
ولا يستطيع أي مراقب للأحداث نكران الدور الذي لعبته الصحافة الروسية التي كانت بمثابة مشعل النور الذي عمّ أرجاء روسيا المترامية الأطراف، فقد نشطت أسواق بيع الكتب المحظورة بفرمانات الحزب الشيوعي، وكسرت إرادة الصحافيين الأبطال قيود الرقابة على الكتابة، ولعب شارع «أربات» القديم دوراً في تأجيج الروح الوطنية لسكان موسكو، فهذا الشارع مهوى أفئدة الفنانين والأدباء والفلاسفة والسياسيين، ويمثل الرمز التاريخي لروسيا الحرة، فمن الممكن أن يلمس الزائر لهذا الشارع رياح التغيير في روسيا قبل أن يلمسها في أي مكان آخر .. كل ذلك قبل أن تتطور الأحداث بشكلها التراجيدي وتنهار بنية دولة الاتحاد السوفيتي والحزب الحاكم.

إن مفردات التغيير الروسي نحو الديمقراطية الليبرالية، وقد مضت بمتوالية سريعة، وبقيادات مقتدرة أبرزها بوريس يلتسن، لم تكن في كل الأحوال شبيهة بثورة مخملية، بقدر ما كانت هناك مخاضات صعبة وقاسية نجمت عن تفكك هيكلية الاقتصاد السوفيتي المبني على المركزية الشديدة، قبل أن تتبنى البدائل الأخرى، مما أدى إلى حالات من الضيق الشعبي والتذمر في أوساط الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة ناهيك عن انفلات الأمن وبروز عصابات المافيا وارتهان القرار الروسي في بعض الأحيان للعوامل الخارجية.

وفي مشهد مثير كان للديمقراطية الروسية وجهها المتناقض الغريب عندما لجأ الرئيس بوريس يلتسن إلى الجيش لحسم خلافاته مع رفاق الأمس أعداء اليوم في البرلمان الروسي، ويومها توشح مبنى البيت الأبيض الروسي (البرلمان) باللون الأسود بعد أن قصفته الدبابات بعنف. وكان التعويل- بعد ذلك بسنوات - إعادة الأمور إلى نصابها بتسنيم الشاب فلاديمير بوتن مقاليد الحكم في الكرملين وفوزه في الانتخابات ليمضي رجل الاستخبارات السابق في إصلاحات تمثل الحلم الروسي الذي آن له أن يتحقق دون الرجوع عن الخيارات الديمقراطية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى