فتى الشاشة الأسمر .. الفنان أحمد زكي جسّد عبدالناصر والسادات وتماهى في مأساة حليم

> د. هشام محسن السقاف

>
أحمد زكي
أحمد زكي
كأول الناعين أنفسهم في التاريخ العربي والإنساني على السواء، مالك بن الريب، الشاعر الأموي الذي رثى نفسه شعراً بيائية موجعة مشهورة. طلب الفنان الكبير أحمد زكي وهو في الملاية البيضاء يقاوم المرض الخبيث من منتج فيلم «حليم» في حال وفاته قبل انتهاء تصوير الفيلم أن يوعز إلى المخرج شريف عرفه بتصوير جنازته وأن يضعها في أحداث الفيلم بدلاً من جنازة عبدالحليم حافظ القديمة («الأيام» 17 مارس 2005م)، وكان الفنان الأسمر قد مثل دور البطولة مع الفنانة ميرفت أمين في فيلم (زوجة رجل مهم) وفي سياق أحداثه وردت مشاهد من جنازة عبدالحليم حافظ وكيف كان استقبال المصريين النبأ الصدمة - موت عبدالحليم - بمن فيهم زوجته في الفيلم (ميرفت)، أما هو، وفقاً لسيناريو الفيلم، فقد كان منغمساً بكل جوارحه في تفاصيل عمله كضابط كبير في الأمن، ليس معنياً- ولا حتى متفهماً- لمعاني الحب الجارف للفنان عبدالحليم حافظ من قطاعات واسعة من المواطنين، وربما لم يخطر ببال أحمد زكي يومئذ أن الأقدار سترسم له خطى تراجيدية تضعه في اللحظات الحرجة من حياته، وهو يقاوم مرض السرطان الخبيث، وجهاً لوجه مع العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ بأن يتقمص دور حليم سينمائياً، وقد بدأ زكي التمثيل في مشاهد من الفيلم بعد أن سمح له الأطباء بذلك عندما خفت وطأة المرض المخادع، وفي الواقع هناك تماثل حقيقي، شاءته الأقدار، بين أحمد زكي الذي يؤدي الدور، وحليم الفنان النادر معبود الجماهير الذي لم تخل حياته من الصغر إلى الكبر من معاناة اليتم والفقر والمرض القاتل ، حينها، البلهارسيا.
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

جنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه

وليت الغضا باقي الركاب لياليا

ألم تر أني اشتريت الضلالة بالهدى

وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا

مالك بن الريب
جمال عبدالناصر
جمال عبدالناصر
وجاء إعلان زكي تمثيل فيلم «حليم» وسط زوبعة من الحزن الشديد بين محبي هذا الفنان العملاق، جراء المرض الذي تسلل إلى جسده، وبين الترقب والرجاء والأمل وفيض الدموع جرت وقائع تدشين تصوير المشاهد الأولى من الفيلم، وفي حفل احتفائي بالنجم العائد من (جدارية الموت) على حد تعبير الشاعر محمود درويش، نقلته عدسات التلفزيون وشاهده الملايين في الوطن العربي.

كان مشهداً اختلطت فيه الفرحة بالدموع بما يؤصل حالة الوفاء بين الجمهور والفنان وتأكيد على الخاصية المصرية المستمدة من جذورها الفرعونية إلى اليوم التي تقوم قائمتها تكاتفاً وتكافلاً في كل ضراء، ظل الفنان المحتفى به لدقائق يوزع القبلات والابتسامات على الموجودين، مما أنعش الأمل في قلوب الملايين من محبي هذا الفنان في مشرق الوطن العربي ومغربه بأن يتجاوز محنته بعون الله، وبإرادة تمده بالقوة في أن يظل متشبثاً بالأمل مهما بدا ضعيفاً، وهو ما برهنته اللحظات العصيبة الحرجة وهو بين الحياة والموت- عندما لم يتوان من دمغ السينما المصرية ببصماته المتميزة حتى هذا الوقت بتمثيله فيلم -حليم- بعد أن خلد الشخصيات العظيمة والكبيرة في تاريخ مصر المعاصر من عبدالناصر إلى السادات والآن عبدالحليم حافظ.

أنور السادات
أنور السادات
تجلت موهبة الفتى الأسمر أحمد زكي في مسرحية «مدرسة المشاغبين»، مع ملك الضحك عادل إمام، وكانت ملامحه إيحائية لم تبهت في ظل دوره الصغير وطغيان كوميديانية الكبار عادل إمام، سعيد صالح ويونس شلبي، بل احتفظ بمساحة في المسرحية على تواضعها لفتت إليه أنظار المخرجين وصناع السينما المصرية لتكسب به الشاشة الكبيرة فناناً جاداً يتقن الأدوار المختلفة من الدراما والتراجيديا الى الكوميديا والاستعراض. إن جزءا من مقدرة الفنان أحمد زكي الفنية تمثلها انطباعيته لدى المشاهد بملامح المصري الأسمر ابن البلد الصميم، الذي لا يتهيب من تقحم دوائر مغلقة لشخصيات كاريزمية معقدة في المبنى والمعنى - إذا جاز التعبير- تشكلت في الذهنية المصرية والعربية بما لا يمكن نسخها ثانية أو نسجها فنياً، إلا بتكاليف معنوية ومادية، وقد رأينا ملمحاً من ذلك في فيلم «عمر المختار» للمخرج مصطفى العقاد وبطولة انتوني كوين، مع تفوق واضح لتقنيات صناعة الفيلم، أما أحمد زكي فقد حقق الاختراق الرائع في فيلم «ناصر 56» بأداء يصل الى درجة الإقناع ، وهكذا هو أحمد زكي، استطاع بمهارة وحذاقة فنية إعادة عبدالناصر في فيلم «ناصر 56» متناولاً عاما من أكثر الأعوام إثارة في تاريخ مصر المعاصر، يبدأ إرهاصا بالجلاء والتفكير بإعادة حق مصر في القناة- قناة السويس- إلى الشعب المصري، إلى اللحظات الأكثر حرجاً وقلقاً حين فاجأ عبدالناصر من منشية البكري العالم أجمع بقرار تأميم قناة السويس في خطاب لا أشهر منه خطاب في التاريخ السياسي المصري، وتبلغ الأحداث ذروتها بتصاعد لهجة العدوان والتهديد لمصر من طرفي بريطانيا وفرنسا ومعهما في السر أولاً ثم العلن دولة إسرائيل، لقد تبلور موقف عبدالناصر البطولي- وكما عكسه زكي في الفيلم- في كيفية إدارته للأزمة، والجدل الذي دار في مجلس قيادة الثورة، والاصطفاف الوطني في مصر وراء الزعيم الخالد جمال عبدالناصر وتفاعل شعوب الأمة العربية للوقوف مع أشقائهم في مصر، والحقيقة أن جمال عبدالناصر كان يوحد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج بخطاباته الوطنية ذات النبرة القومية العروبية، وخيراً فعل سيناريست فيلم «عبدالناصر 56» عندما عكس التباينات المختلفة داخل أروقة مجلس قيادة الثورة.

بالإضافة إلى رصده لتحركات الطابور الخامس أثناء العدوان الثلاثي، مع تصويره للمسات إنسانية من حياة الزعيم الذي يستغرقه العمل الوطني على حساب أسرته وراحته الشخصية.

مما لا شك فيه أن أحمد زكي قذ بذل جهداً مضاعفاً للاندماج في شخصية جمال عبدالناصر، وكان تألقه نابعاً من حبه للشخصية نفسها، وتمثلها التمثيل الأقرب إليها، مما أفضى في النهاية إلى نجاح منقطع النظير لفيلم «عبدالناصر 56»، وكان بمثابة استفتاء لعبدالناصر بعد ثلاثين عاماً من وفاته يصب في خانة الزعيم الخالد، مع العلم أن غالبية من رأوا الفيلم وتفاعلوا معه داخل مصر وخارجها كانوا من الجيل الذي ولد بعد وفاة جمال عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970م.

وكعادة الأقوياء الموهوبين الذين لا يجلسون على قمة الهرم - هرم النجاح - إلا لالتقاط الأنفاس، ومعاودة وضع حجر أخرى على القمة يقفون عليها، يندمج أحمد زكي ويتماهى في بنيان سيكلوجي معقد للرئيس الراحل محمد أنور السادات من خلال أحداث الفيلم «أيام السادات».

عبدالحليم حافظ
عبدالحليم حافظ
وإذا كانت تجربة فيلم «ناصر 56» تنحصر في اللون الأبيض والأسود لرصد أكثر واقعية لأحداث العام 1956م في حياة الزعيم ومصر، فإن زكي - السادات - في الفيلم الجديد يذهب باحثاً في خبايا شخصية السادات بالطول والعرض، سبراً وتجريداً، من مرحلة الطفولة وحتى اغتياله، مروراً بكل الأحداث الكبرى في حياة السادات الغاضب والثائر والمتمرد الذي يبحث عن الحرية لبلاده، إلى السادات أحد الضباط الذين قادوا مصر سياسياً بعد يوليو 1952م الى اللحظة التي تسلم فيها الحكم وإدار البلاد بفلسفته السياسية المختلفة حتى اللحظة الغادرة حين تقتله رصاصات أمام عدسات التلفزيون في العرض العسكري الكبير يوم 6 أكتوبر 1981م، في مشهد دراماتيكي غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث.

لقد كان ثناء السيدة جيهان السادات على أداء احمد زكي في هذا الفيلم شهادة لا يأتيها الباطل من خلاف، لانها جاءت من أقرب الشخصيات التي عرفت ورافقت وعاشت مع السادات تحت سقف واحد، مما يدلل بالملموس على أن موهبة زكي الفنية تقترب من رسم بصمات لمدرسة فنية سوف يشار إليها بالبنان، هي مدرسة أحمد زكي في السينما المصرية.

يرقد الفتى الأسمر في غيبوبة بين الحياة والموت محفوفاً بدعاء الملايين من محبي هذا الفنان العملاق والعبقري صانع اللحظات الأكثر إشراقاً وصدقاً وواقعية في السينما المصرية. يبقى أن نبتهل إلى الله جلت قدرته، ليلطف بأحمد زكي في هذه اللحظات الحرجة، وأن يخرجه سالماً معافىً من محنة المرض الخبيث .. إنه على كل شيء قدير.

23 مارس 2005

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى