الشاعر عبدالله باكرمان وشجون العائد لذاكرة الندى

> عمرعوض خريص

> من الأصوات الشعرية التي شقت سجاف الصمت الممقوت، وانسلت مترنمة بأهازيج ألوان قوس قزح، حتى ضمخت المكان والزمان بطراوة الشعر وحلاوته، صوت الشاعر المبدع (عبدالله سالم باكرمان) الشادي المطرب، وديوانه الأول (شجون العائد لذاكرة الندى) الصادر عام 2003م، فتح جديد يؤكد حضور الشاعر، وإضافة جميلة لديوان الشعر في اليمن، وما بين قصائد الديوان (21 قصيدة) يتأرجح العطاء الشعري عند شاعرنا بين الوضوح والغموض، بين الرمز المتيسر للفهم، والرمز الموغل في الإيهام، وتتناوب قصائد الديوان هموماً ثلاثة يزجيها الشاعر وتتخالط أحيانا الخلود والرفعة.

وما عاب الديوان خلطه بين قصائده، من تفعيلية إلى عمودية إلى نثرية، بل بين هذا التمازج ترى تجربة الشاعر واستطاعته الإبحار مع التيار وعكسه والغوص أحياناً إلى مكامن الدرر الجميلة، والجمال شرط من شروط الشعر وهو تجسيد لما قاله الشاعر:

إذا الشعر لم يهززك عند سماعه

فليس جديراً أن يقال له شعر

وهذا الجمال في حد ذاته موقف تعكسه روح الشاعر، وتخلقه لنا كياناً حياً ينبض بالإشراق البهي الذي يمنحنا طاقات متجددة في فهم الحياة ومجرياتها.

والشاعر لا شك في مقابل هذا يتوق إلى رؤية نتائج تجربته، وقد حققت أهدافها، بل يعول شاعرنا (عبدالله باكرمان) بأن ما يرجوه هو انعتاق لذاته، لذا فهو يصدر نداءه كفاتحة لديوانه لعله يجد ما يرجوه، لعله بهذا (يستعيد صفاته) كما قال، وننظره هنا وقد زمّ شفتيه قائلاً:

تعال.. انبثق..

قل ما تراه مناسباً

أغثني.. وخذ ما شئت/ من كلماتي

تعال .. فإني اليوم أرجوك ضارعاً

- إليك- بأن تأتي/ لتعتق ذاتي.

وإذا تجاوز الشاعر هذا القلق المتشظي، وضمن انسكاب رحيقه في أوعية التلقي، سيظل ألف هاجس يطارده مراراً، ويحاوره أحياناً، هواجس مثقلة بعبء الرسالة وبواعث الانعتاق، هذا الهاجش يصفه لنا الشاعر (عبدالله باكرمان) بل يبلوره حينما يقول:

أينما سرت

يأتي وئيد الخطى

يتوسد صوتي..

له نكهة الغرباء

ووجه النبي الحزين

دائماً بين صمتي وبين الكلام

وبيني وبين الرؤى

وعيون المنام

يتمتم بالأحرف الحائرة

ويقول: أنا أنت يا صاحبي

أيّنا سوف ينزع قبعة الغيم

من هاجس القلق الموسمي

أينا سوف يدخل مئذنة الهذيان

لينسى تباريح أوتاره الذابلة

ويحمل الشاعر بوحاً جديداً في قصيدته التي حملت اسم الديوان (شجون العائد لذاكرة الندى) ولم تكن شجون هذا العائد مجرد شجون، بل هي تحمل هماً أكثر من هذه الشجون، ولن نسمي هذا الذي يدخل غبطة الميلاد شجناً، ولكنه بعث يحمل سر الحياة وصفات الانصهار، يرسم لنا الشاعر خطوات هذا العائد، فيصفها قائلاً:

تختار قافية وتنسى

- ربما تنسى خطاك -

الآن تددخل غبطة الميلاد

محتشداً بذاكرة الصباح،

بهجسك النائي.../ بأحلام الطفولة

بالرؤى الخضراء

بالبرق المسافر في شرايين القرى

هذي إذن.. أولى الحكايا

في اقتناص أهلّة النجوى

وبوح سنابل الحلم الوليد

عيناك تنظر في الأزقة

في النخيل/ وفي السواقي

في الشبابيك التي كانت ترف عليك

بالحناء والعشق البريء

وعلى رغم ما تعترض طريق العائد من عوائق، مجسمة ومبهمة، وتحسر الشاعر بين ليت وهل في قوله «ليت القوافل لم تسافر في تجاعيد الخطى/ أو ليتها لم تشتعل بخطاك ذاكرة الندى/ ذهب الذين تحبهم / وبقيت وحدك في متاهات الدرب/ تهذي بالنشيج/ هل عدت كي تزجي واللحن المشرد في رؤاك/ ما لي أراك مشتتاً/ تستحضر الأشياء/ من غسق الشواهد/ هذه الطرقات ملأى بالشذى/ وملاعب الصبوات / لا تدخل مسالكها / فقد تبكي/ وقد تبكى عليك/ آن الأوان لكي تعانق كل سنبلة/ ليهمي حولك العبق/ وتطير كالعصفور مبتهجاً/ وأفقك كله ألق»، هذه التراتيل المتفائ قد ولجنا، أتانا شعاع الكم يبدد وحشة الانقباض، ويرسم الوهج المحبب خرائط الأمل الباسم.حينما يستبد بالشاعر الهم الوطني ينكي جروح الحزن، وتستشف الأنفس اللهفى إلى رؤية صافية لخارطة هذه الوطن القابع في أغوار وأفئدة أبنائه الخلص.

إن وجع الشاعر حينما يهذي على شريان هذا الوطن يضج الزمان والمكان، فكيف للعشاق أن يغمض لهم جفن وقد أجفلت جحافل النوم مهزومة حينما سمعت تراتيل الشاعر منشداً: «إيه يا صاحبي/ جف عمر المسرات /أينع عمر الخراب/ إذن أي درب سنسلكه/ كي نرمم أحلامنا / من جديد لغة سوى لغة القبائل/ كلها الطرقات ملأى/ بالخناجر والشيوخ/ من ذا يقاسمني حنيني/ أو يدحرجني على قمر المساء/ مرتلاً تعبي/ لكي أنسى تفاهتهم/ وأترك لغوهم/ إني أعوذ بحزني اليوم من أدرانهم/ دعني إذن يا صاحبي لمواجعي».

إذا وننفي هنا لغة اليأس من ديوان صاحبنا وإن بدت نبرة الحزن في أعلى مستواها في بعض الأحيان، مثال «لا وقت للأحلام في بلدي/ ولا لغة سوى لغة القبائل/ كلها الطرقات ملأى/ بالخناجز والشيوخ»، نتجاوز عن الشاعر شواظ هذه الأحاسيس ومرارتها، ونحسب له ابتهاجه المشرق في وهج المعاناة تحتسي من نخب فرحتها / وقد عبرت مفاوز ليلها/ هذي التي ما زلت مرتجلاً غوايتها/ تطارحها الهوى/ تهذي بمسبغة التهجد/ في جلال حضورها / اليوم تكمل عمرها الفضي/ باهية كأجمل ما ترى / اليوم تهطل بالمنى/ جذلى/ تزخرف حلمها/ ترنو إلى بوح الندى/ في هاجس الأيام يتلى..».

والشاعر عبدالله باكرمان بدا في ديوانه وفياً لديوان الشعر العربي، منتهجاً خطاه، متأثراً ببعض أعلامه، كتأثره بالشاعر الكبير عبدالله البردوني، فإننا نجد روحه وهمسه في قصيدة الشاعر (قريني) حيث يقول فيها:

أنكرته وهو رسمي

وفي لياليه هجسي

وفي عيون الدوالي

من بعضه بعض همسي

أطعمته من حنيني

ومن شجوني وحسي

وفي هديل الأماني

قد صار ألحان أنسي

صددت عنه ولكن

ما زال يحمل يأسي

كم قلت عنه قريني

فكان أشتات نفسي

هذا الذي في كياني

يبدو شبيهي وعكسي

أو تأثره بالشاعر المصري (فاروق جويدة) وقد حمل شيئاً من نفسه الشعري في قصيدته (أسى) حيث يقول:

نمضي كأنا لا نرى/ أحداً سوانا

نمضي كأن الغيب جنتنا

نحمل ما تبقى من رؤانا

نمضي وقد تاهت مخاوفنا

ولم يبق من ليل الأسى إلا أسانا

وما زالت شاعرية الشاعر حبلي بالجميل والمدهش، وسوف يضيف إلى رصيدنا الشعري المزيد من الإبداع المتألق .. فمرحباً بالديوان وتحية للشاعر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى