كلام الناس في الشارع مخيف وحكومة ترفع شعار (قل ما شئت وسنعمل ما نشاء):شعب يئن من غول الفقر ومسؤولون يتنافسون في النهب تنفيذا لمقولة (اغنم زمانك)

> لطفي شطارة

>
لطفي شطارة
لطفي شطارة
النقاشات في مجالس القات وفي كل شوارع اليمن تتناول كل الامور في البلاد، والشفافية يمارسها الناس في ما بينهم بكل صراحة وبصوت عال لم الحظها في اي بلد آخر زرته ، وربما هذه من حسنات ومساوئ الديمقراطية التي تمارس هنا وعلى الطريقة اليمنية التي ترتكز على قاعدة ( قل ما شئت وسنعمل ما نشاء ) .

فخلال جلسات سريعة وحديث هامشي مع الناس في الشوارع والمقاهي، وفي عدد من هذه المجالس منذ وصولي قبل ايام الى البلاد لقضاء اجازة قصيرة ، تأكد لي وبالملموس ان الشفافية والصراحة في النقاشات تتناول كل شيء ولا توجد خطوط حمراء للحديث عن اية قضية ، فإذا ركبت سيارة أجرة او ركبت باصا عاما للركاب فستسمع ما لم ولن تسمعه من ممثلي الشعب تحت قبة البرلمان ، الذي يكلف خزينة الدولة مليارات الريالات سنويا اعتقد انها تذهب هباء في صرفها كمرتبات وحوافز ومغريات وامتيازات على نواب في برلمان لا يستطيع ان يقنع اي مواطن غلبان انه يعبر عن معاناته او عن همومه او يرقى الى ملامستها ، برلمان لا يستطيع ان يقول " كفاية " ألاعيب وكفاية ضحك على البسطاء ، برلمان صوت بالاغلبية للقرارات التي زادت من معاناة المواطن الذي اصبح لا يثق بأية دورات انتخابية برلمانية قادمة اخرى تتم بقوالب مسرحية لديمقراطية تكرار الوجوه وتزايد الهموم والمعاناة اليومية للمواطن ، فتحول اعضاء البرلمان الى موظفين لدى الدولة، في الوقت الذي تزداد هوة انعدام الثقة بين المواطن وعضو البرلمان .

حالة الحديث وبصوت عال بين الناس عن مشاكلهم تسمعها ولا تمل من واقعيتها حتى يتهيأ لك ان كل مواطن يستطيع ان يمثل نفسه ويدافع عن حقوقه اذا ألغت الدولة البرلمان وحررت الاعلام من قيوده المكبلة، البرلمان اصبح وحسب اعتقادي مجلسا صوريا ويشكل عبئا ماليا يتحمله هذا الشعب المطحون بمكابدته اليومية لمواجهة الامور الحياتية التي تزداد صعوبة يوما عن يوم .

فالناس هنا تتكلم بكل شيء وعن اي شيء بدءاً من العمليات المنظمة لنهب الاراضي والاتجار بها من قبل مراكز القوى والمتنفذين ، اناس كانوا في مهن بسيطة ومحترمة قبل ان يتحزبوا ، منهم من اصبح بوقا علمانيا ليكسب ، ومنهم من اختصر المسافة وتخفى بثوب الاسلام كأسهل وسيلة لدغدغة العواطف ليقفز بين الكبار ليس بالفكر ولكن بعدد لا يحصى من الفلل والسيارات الفارهة ، كيف يتحول متحزب اسلامي وعلى سبيل المثال في عدن وباسم الدين ومنذ 11 عاما الى مالك لعقارات لا تحصى وسيارات لا تعد ولم نسمع من يقول من اين لك هذا ، كيف سيقتنع المواطن ان الاحزاب وخاصة الدينية منها ستدافع عن مصالحه اذا كان اول من ينتهكها ويستولي عليها قيادات " الغفلة " في هذه الاحزاب ، وسط حالات من التذمر التي احبطت الآلاف من العاطلين عن العمل بين الشباب ، او بين اولئك الذين أجبروا على التقاعد المبكر عن العمل ، ولكن الدولة لا تفعل شيئا ، فهي -اي الدولة - تعلم بكل ما يقوله الناس، وتعرف عن جميع المسببات للمعاناة التي تطرح في الشارع بفعل سياساتها الاقتصادية الكارثية، ولكنها تتجنب الخوض في التفاصيل، او تكلف نفسها حتى طمأنتهم بمستقبل مشرق يقوم على التغيير بما يلامس هذه المعاناة ويحقق ولو جزءا يسيرا من القضايا التي تقال في الشارع وعلى الملأ دون خوف ، ولكن دولتنا وحكومتنا التي عهدنا منها استهتارا كهذا، تجنب نفسها وجع القلب على " كلام شوارع " وتضع اذنا من طين واخرى من عجين .

يتحدث الناس كما ذكرت عن الغلاء والفساد ، يتطرقون الى اللصوصية وممارسات العصابات المنظمة لاستنزاف الاموال العامة، يتكلمون عن الفقر ويؤكدون ان الدولة ليست فقيرة بل ممارسات الفاسدين من المسؤولين والمتنفذين ، وتشريع الفساد الذي اصبح أمرا واقعا وخارجا عن نطاق سيطرة الدولة ، والتبذير الفاحش للمال من قبل المستهترين امام اعين المحتاجين بكل وقاحة وكأنهم ينعمون بإرث لا يستحقونه .

ممارسات كهذه تؤكد ان الدولة ليست فقيرة بل تفقر وبتعمد ومع سبق الاصرار للاضرار بالآخرين ، في المقاهي او في المكاتب، على ارصفة الشوارع او في مجالس القات مهما اختلفت في بساطتها او في وجاهتها، يناقش الناس أمور حياتهم حتى السياسية منها ويحللونها بكل واقعية منذ حرب تحرير العراق وحتى قرار اجبار سوريا على الانسحاب الفوري وغير المشروط من لبنان وانعكاس ذلك على الوضع في العالم العربي الذي لا تعتبر به كثير من أنظمته ، يسخر الناس من وعود قيلت وتكرر قولها ولم تنفذ ، فهم وكما أشرت ، لم يعودوا يعيرون صراعات الاحزاب ومناكفات السياسيين فيما بينهم اية أهمية ، يتساءلون وبخوف عن المجهول الذي قد يأتي مع بدء تطبيق الجرعة السعرية الجديدة ، فلم يتمكنوا بعد من مقاومة غول الغلاء القائم ، الكل يتحدث عن اسعار خيالية في الكهرباء وفواتير الاتصالات ، يتحدثون عن اسعار مجنونة للاسماك في بلد عربي يملك اطول شريط ساحلي يمتد 2650 كيلومترا مربعا ، يتعجبون من صمت الدولة الذي يوازي صمت الموتى عن قضايا مخيفة وملحة، المياه تنضب ولا حلول ، عمران مهول لا تعرف كيف بني ومن خطط له ، ومع هذا يعلم الجميع من يملك الفلل والقصور والعمارات التي تبحث عن نزلاء ، مستشفيات تعجل بموت كل من يزورها بحثا عن علاج .

في الشوارع هنا تسمع كلاما اذا قيل في اية دولة غير عربية فسيكون الامر مؤشرا لاسقاط الحكومة ، فكيف تقبل حكومة تحترم نفسها ان يتحدث شعبها عنها وبهذه الصراحة من القسوة على ادائها وقلة او انعدام كفاءة وزرائها، يكيلون لها شتى اصناف التهم بل ان بعضهم يقول علنا ان في اليمن شعبا بلا حكومة ، فالامور كما يشرحون تسير وبعشوائية قد لا يكون لها مثيل في اي مكان ، تسأل كيف؟ تعتقد ان الخوف سيمنعهم من الرد ، ولكن المفاجأة تأتيك عندما يقولون ، هل تعلم ان المستشفيات لا تعطيك علاجا حتى وان كنت تلفظ انفاسك الاخيرة اذا لم يكن لديك مال تشتري به صحتك من مستشفيات الدولة التي تحمل مواطنتها ، صرخ احدهم بوجهي قائلا : لقد بلغنا من الاهمال ما لم تبلغه حتى مستشفيات العاصمة الافغانية كابول، مستشفيات بلا " مطارش " ، سألته مقاطعا ماذا تعني ؟

فقال : الم تسمع بتحول المريض الى سلعة لدى الاطباء ، الم تسمع ان من يملك المال يملك العلاج ، ومن لا يملك فعليه ان يحتضر حتى يدركه الموت، الم تسمع ان المرأة التي تذهب الى المستشفى لوضع مولودها عليها احضار كل الادوات والمستلزمات الضرورية لاجراء عملية الولادة فتخيل الكارثة لمن لا تملك المال لشراء حياتها وحياة مولودها؟

كلما اعتقدت انني لن اسمع في المقهى الذي سأفطر به صباح اليوم حديثا عن الهموم او نهاية لها ، تصم اذنيّ بلاوي وقصص وروايات لوقائع حياتية يومية هي اغرب من الخيال ، بدءا من روايات عن سمسرة الاراضي والبسط عليها بغير حق وبمنطق قانون القوة ، وانتهاء بحكايات تطفيش المستثمرين بسبب تدخل "المتنفذين وفرضهم قانونا للحماية"، وبين هذا وذاك تمتزج سخرية الناس بإصرار الدولة على تسمية عدن عاصمة اقتصادية لليمن ، لم اشاهد من الاستثمار في هذه العاصمة الا سلسلة من "الملاحم" و"اللوكندات" ، عدد هائل من محلات "الاتصالات" وقوافل من " الشحاتين" المنظمين ، فنادق مهجورة من النزلاء ودخلها لا يغطي نفقاتها ، وبنية تحتية هشة لا تصلح لمشروع استراتيجي كمشروع المنطقة الحرة الذي سيبقى وصمة عار على الدولة بعد مرور اكثر من 15 عاما على اعلانه ، في الوقت الذي تسابق فيه دبي عجلة الزمن ، فقد قررت سلطة هذه المدينة "دبي" التي تواجه مشاكل متزايدة في حركة السير ناجمة عن التنمية الاقتصادية الهائلة التي تشهدها هذه الامارة ، التزود بمترو للانفاق في غاية الحداثة تتنافس اربع مجموعات دولية للفوز بعقد بنائه المقدر بنحو 12 مليار درهم (قرابة 3،3 مليارات دولار). والدولة في بلادنا مازالت تصر على ان ما يجري في عدن له علاقة بالاستثمار او ان ما يجري في البلاد له صلة بالانفتاح الاقتصادي .

وخوفي الوحيد ان تعتقد الدولة ان كل ما يقوله مسؤولوها يصدقه الناس ، وان اصرت على اعتقادها فستكون بمثابة المؤشر الاكيد للكارثة التي حذرنا منها رئيس البنك الدولي المستقيل، وان تجاهلت كلام الناس في الشوارع فستكون كمن يدفع نفسه للانتحار.

والله من وراء القصد.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى