شُبْهَةُ حُلْمٍ بِتَرْكِ هَدْهَدَةِ الجَلافَة

> «الأيام» ميفع عبدالرحمن :

> في لحظة مزاج رائق، عند منتصف الليل (ومن نتوءات بقايا قروح في قسمات المهد- الذي كان جميلاً- وقد احتوته الجلافة، منفردة به، متمددة على بطنها فوقه، فاشجة رجليها عليه: بدءًا من منافذه الجوية حتى البحرية والأرضية/ واجهات التوق المهلك للجاه باستجداء الجلافة/ معارض الوجوه الكاسدة/ دواوين خدر الأحذية الملمعة/ قاعات التصفيق المخاتل/ مراكز تنمية الأقفية القابلة للصفع والصفح معاً/ مكاتب البحث المتأخر عن السمسرة والذات الضالة/ غرف اجتماعات الدمى المتلونة/ انتهاءً بعقود الانتصارات الكالحة على أنهار الطرق السريعة والشوارع المتفافلة)، أطلق علي عربي، المُهَدْهِدُ، لمزاجه العنان.

اندفع تاركاً- وراء ظهره- كل أُطره بلا استثناء ولا استئذان. يراها مجرد زجاج وخشب أو المنيوم لا أقل ولا أكثر، حتى الفاخر منها والثمين- لزوم ترسيمه- خالعاً أرديته الثلاثة: البزة، البدلة والزي.. إلاّ من قمص وبنطال عاديين وصندل بسيط، متحرراً من أقانيمه الثلاثة الخاصة.

يحلم أن يكون كما خلقه الله من دون زهوه المختال بذاته/ أرديته/ أحذيته/ أربطة عنقه/جواربه/ أنيابه/ أظفاره/كفيه/فكيه و.. تلك الصحف/ الإذاعات/ الفضائية/ الحمقاء من بقر سقر: تطري عند غيره- في تبجح فاضح- ما يضاعف من تصلب شرايين عنقه وقدميه ويجعل النعاس شعاعاً أزرق يتطاير أمام عينيه ويعز عليه التقاطه، جراء مكوثه المتهافت حادباً على جمجمة الجلافة، يهدهدها ليلاً ونهاراً، نائمة أو مستيقظة.

فما أن خيل له أنه- في اندفاعه المتباعد عن ضلوع المهد وهو يهرول خفيفاً - يكاد يحلق في نشوته الحقيقية، لأول مرة منذ عقدين، وإن وسط قفر لم يثقل عليه انقباضه الطارئ من إقفاره الذي ما كان ليتوقعه، حتى تبدد الرمل أمامه- فجأة- عن مكوك صحراوي اللون والليل: مروره العاصف وحده، ناهيك عما يشتحن فيه من مخلوقات رعب، يكفي كي يحيل المهد كله إلى قفر موحش كل الليالي والنهارات- إلى أجل غير مسمى- بأمر الجلافة من جمجمتها أو من عقبيها.

- قف!
جلجل الصوت الآمر في مسمع المهدهد، كأنما من أعماقه هو، حتى بدا له- في برهة خاطفة- أنه هو نفسه صاحب الصوت الآمر.. فلا فرق بينه وبين الصوت ذاته. لكنه سرعان ما توقف. يتلفت منتظر/ مرعوباً/ فاقد الحيلة/ لا يدري لماذا يتوقف/ ماذا فعل وماذا سيحدث له. جوارحه الآن مغلولة تماماً بالرعب الآخر، غير الذي صار - منذ عشرين خريفاً- مألوفاً عنده بالضبط مثل: الجلافة/ عزة النوم/ تصلب الشرايين/ بقر سقر/ فكيه/ أظفاره/ أحذيته/ أرديته/ عقود الانتصارات/ الدمى المتلونة/ الأقفية القابلة للصفع والصفح الفوري/ التصفيق المخاتل/ الوجوه الكاسدة/استجداء الجلافة من جمجمتها أو عقبيها.

- من أين؟ وإلى أين؟ في هذه الساعة!

انبرى له مخلوق من حمولة مكوك الرعب الجاثم أمامه.

- ها .. من؟ أين؟ أنا؟

لم يتلعثم فحسب، بل نسي الكلام. وقد ظهر لنفسه غريباً عليها، وأغرب منه حاله المزري الآن، لأول مرة منذ (240) خوفاً.

- معك.. أنا..

بذل أقصى جهده، متجالداً على لسانه، من دون جدوى. وإلاّ ما الذي سيقوله؟ هل سيكشف عن نفسه! فيكشف عن حلمه!!

- ما معك تقهقه؟ معك بطاقة؟

سرعان ما كانت الذراع الحديدية، ذات الطير الحديدي أعلاها، قد بلغته وباغتته تشده من ياقة قميصه، كأن لها ثأراً مع القيمص أو ياقته، تشدها الذراع ذات الطير في زهو، قارنه المهدهد - سابقاً - مع زهوه هو.

زهوه هو! وأين زهوه ذاك؟ بل أينه هو ذاته؟ إنهما معاً ضائعان/ مسحوقان/ مفجوعان في ذاتيهما/ مرعوبان من صورتهما المصغرة ماثلة أمامه الآن. وهو لا يدري من يمكن أن يجازف في البحث أو التعبير عن الآخر: هو عن زهوه؟! أم العكس؟! لا يهم. هذا لا يهم. ما دامه لا يحتاج الآن لأي زهو. إذ لم يكن في وسعه- تحت ضغط الذراع الحديدية- إلاّ أن يجهش بصوت مخنوق:

- يا أخي أنا.. معك.. علي.. عربي.. معك!

- ماذا؟ من؟ من قلت؟ علي من؟

لم تمهله الذراع وما أمهلت ياقة قميصه، كأنها أو القميص طرف معني- هو الآخر- فيما يجري.. فتشقه نصفين من الياقة إلى الأسفل، في أقل من طرفة عين من عيني عربي - بمفرده- لأنه لم يكن لتلك الذراع -شبهتذ- عين عربي، حتى تطرف. إنما كان لها شدق، فَغَرَته على آخره في قهقهة باذخة البحبوحة/ متباهية ومزهوة جداً ببذخ بحبوحتها وبالنبرة الرديفة لها/ طائرة بازدرائها الخاص جداً/ نظير نصر كاسح ومريح/ نادر المضاهاة:

- أنت من؟ المهدهد!! أنت؟! واعي الجلافة!! آمنا!! أنت؟! يا سبحان الله! وأنا؟! من يقولون لي؟ راعي أم المعارك؟! لا تكفيني. أنا راعي مونيكا. أنا من؟ من يقولون لي يا عاق والديك؟!

وفجأة كأنما بزر ما - ضغطته إصبع خفية- كف ذلك المخلوق المكوكي/ صحراوي اللون والليل/ كف عن اهتزازه السخي، مطبقاً شدقه، قالباً سحنته، مستعيداً اندياحه الحديدي في وقفته ولهجته الطافحتين -كالعادة - بزعاف الجلافة.

- لكن ما تعملوا يا سيادة الراعي عاق والديك في شوارع الغفلة هذي نصوف الليالي؟!

- أنا أتف.. أتفق.. أتفقد.. أح .. أحل..

- ما هو؟! ظاهر إنك جاسوس مشبوه متآمر خائن. اقبضوا عليه.

ربما كان هذا هو آخر ما يمكن أن يوقر في مسمع المهدهد، على حد تخيله. وعلى حد تخييله أيضاً، ربما كان هذا مما يمكن أن يحدث: في شارع قفر إلاّ من شبهة حلم وسكون مطبق، يمكن أن يطبق عليه نقيضه في حدة تشبه حدة ومض، ربما بالكاد يراه المهدهد خطفاً/ غبشاً أو برقاً/ كثيفاً جداً/ يحاول أن يدرأه عن عينيه.. فلا تسعفه كفاه. يخاطر بالفرار، تاركاً شبهته وراءه. يسبقه فراره باتجاه الجمجمة.

نوفمبر 1998م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى