كل حديثٍ عن حضرموت خارج فضائها الجنوبي هو اجتزاءٌ للتاريخ وطمسٌ للذاكرة، فالحضارمة الذين استقرّوا في المملكة العربيّة السعوديّة منذ مطالع القرن العشرين منحوا نهضة المملكة عرقهم وخبراتهم، لكنّهم حملوا معهم أيضًا بذور «الهوية الجنوبية» أينما حلّوا: أخلاق السوق الحضرمي، عمق التصوف، فن العمارة الطينية، ولهجة البحر التي تمزج العربية بالملايو والهند والسواحِل. تلك البذور أينعت شراكاتٍ اقتصادية وروابطَ اجتماعية ووشائج ثقافيّة لا تنفصم.

اليوم تُطرَح على الساحة أطروحاتٌ تُرِيد لحضرموت أن تُختَزل في جغرافيا «منزوعة الجنوب»؛ وكأنّ ما يجري في عدن، ولحج، وشبوة، والمهرة، لا يمسّها، وكأنّ «قضية الجنوب» مجرّد لافتة سياسية عابرة. الحقيقة أنّ الجنوب كان وما يزال قضية وطنية ثقافية (بامتياز) بُعد القضية معطيات حضرموت/ الجنوب الدلالة الثقافية.

التاريخ مملكة حضرموت القديمة -طريق اللبان- هجر العلم وحدة جغرافية وروحية ضاربة في القدم اللغة اللهجة الحضرمية، البُنّ اللحجي، المصطلحات الشبوانية طيف لغوي واحد يعبّر عن تنوّع داخلي لا عن انفصال الاقتصاد تجار دوعن بالبُنّ والبهارات، موانئ عدن والمكلا تمازج بحر/ وادي أعطى الجنوب قوّته الناعمة.. الدين المدرسة الصوفية و«حضرموت الحضارية» الممتدة لإندونيسيا نشر الإسلام المتسامح بهوية جنوبية واضحة الفنون الليوة والزامل، مفلحيّات عدن، رقصات الهبيش والحيد فسيفساء شعبية لا تُختزل في محافظة دون أخرى.

إذن، عندما يَفصل بعض المقيمين الحضارمة هويتهم عن الجنوب ظنًّا منهم أنّ الجنوب «قضية سياسية» قابلة للمساومة، فهم يتناسون أنّ جذورهم الثقافية - الروحية مرتبطة بمصير الجنوب أكثر من ارتباطها بأي مساومة آنيّة. الجنوب إذا تعافى سياسيًّا ستزدهر حضرموت ثقافيًّا وتنمويًّا، وستجد شبابه - سواء في الرياض أو جدة أو جاكرتا - إطارًا دولتيًّا منفتحًا يُكرّم إرثهم ويحتضن رؤاهم.

رسالة ختامية

لا يصحّ أن نمنح انتماءنا الجديد ونُنكر نخلتنا القديمة. الجنوب ليس عباءة ضيقة، بل فسحة تاريخ تتّسع لحضرموت، ولعدن، ولكلِّ مَن حمل البخور والبُنّ والعلم إلى العالم.

الوفاء الحقيقي أن نكون حضارمة وسعوديين وجنوبيين في آنٍ معًا:

حضارمة في حفظ قيم السعي والصدق.

سعوديين في الشراكة والبناء.

جنوبيين في الدفاع عن وحدة هويةٍ ثقافيةٍ لا تتجزأ.