> «الأيام» ادوارد الدحداح :
1- أهمية إدارة الحكم للتنمية الاقتصادية، الاجتماعية والإنسانيةتشترك معظم الحكومات والشعوب في تطلعها إلى التنمية الوطنية على اختلاف تفسيراتها، وغالباً ما يتمحور تعريف التنمية على جوانبها الاقتصادية، أي ارتفاع مستوى الرفاه المادي عبر الدخل والتوظيف المضمونين لكل الراغبين، ولكن الأشخاص الذين يرتاد أولادهم مدارس رديئة، أو الذين لا تتوفر لهم مياه شرب نظيفة أو المعرضون لخطر العنف يعلمون جميعاً أن التنمية تتمثل أيضاً في توفير خدمات اجتماعية مناسبة، والتنمية هي في المحصلة النهائية تنمية بشرية، نوعية معيشة أفضل، مع خيارات وفرص أوسع ليتمكن الإنسان من تحقيق قدراته، بالإضافة إلى الضمانات غير المادية التي تميز المجتمعات المتقدمة، أي المساواة في المعاملة وحرية الخيار والتعبير عن الرأي وفرص المشاركة في عملية إدارة الحكم.
ولا شك « أن الحكم الجيد هو أهم الآليات التي تضمن تلك القيم للشعب اليمني، ويتمحور هذا البحث حول فرضية رئيسية تقول: إن التنمية في اليمن على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية والإنسانية تعيقهاً إدارة حكم تعاني من مواطن ضعف عميقة».
2- إدارة الحكم في اليمن أضعف مما هي عليه في الدول الموازية الدخل حسب المقاييس التجريبية
من الصعب حصر مفهوم إدارة الحكم المتسم بالتعقيد والتشابك ضمن بضعة مقاييس تجريبية، وقد يوجز الإطار رقم 1 الأبعاد الأساسية لماهية الحكم الجيد. إلا أنه بالرغم من ذلك، تجميع البيانات التجريبية المتوفرة في مؤشرات عريضة لإدارة الحكم يمكن أن يدعم التقييم النوعي، ويسمح بمقارنات مع مختلف دول العالم.
تعمد تقرير «إدارة حكم أفضل لأجل التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» الصادر عن البنك الدولي سنة 2003م، فرز مصادر البيانات الموجودة عن إدارة الحكم في المنطقة حسب مؤشرين أساسيين، مؤشر لنوعية الإدارة في القطاع العام، ومؤشر للمساءلة العامة، يقيس المؤشر الأول فعالية البيروقراطية وكفاءتها وحكم القانون وحماية حقوق الملكية ومستوى الفساد ونوعية التنظيمات وآليات المساءلة الداخلية. في هذا المؤشر، يوازي اليمن بشكل عام الدول الموازية الدخل على مستوى العالم، حتى أنه يتقدم عليها قليلاً، فمستوى مؤشر نوعية الإدارة في اليمن هو 5.33 مقارنة بـ 30 لمجموعة الدول المتدنية الدخل، ويقيس مؤشر المساءلة العامة مدى انفتاح المؤسسات السياسية ومستوى المشاركة واحترام الحريات العامة وشفافية الحكومة وحرية الصحافة ومدى توفر الأمن والاستقرار السياسي في البلاد. في هذا المجال يتخلف اليمن عن باقي دول المنطقة وعن معدل البلدان المتدنية الدخل بشكل ملحوظ، فمستوى مؤشر المساءلة العامة في اليمن هو 19 مقارنة بـ 38 لتلك الدول.
3- ضعف إدارة الحكم في اليمن قيد مناخ الأعمال وأثر على نمو القطاع الخاص
أثر ضعف إدارة الحكم في اليمن على الأداء الاقتصادي للبلاد، من خلال تقييد نشاط القطاع الخاص، وهو المحرك الأساسي لاقتصاد السوق. فتساهم إدارة الحكم في رسم السياسات الاقتصادية وتطبيقها، وهذه السياسات تحدد بدورها وجود مناخ أعمال سليم وجاذب للاستثمار ومشجع للإنتاج.
وقد يؤدي تحسين إدارة الحكم في اليمن الى مكسبين رئيسيين اثنين على صعيد نمو القطاع الخاص، أولاً: عبر تحسين الأداء الإداري ما يقلل من كلفة ومخاطر الاستثمار والأعمال، وثانياً: عبر تحسين مستوى الخدمات العامة التي تزيد من إنتاجية قطاع الأعمال.
3. 1 - تحسين إدارة الحكم يشجع المستثمرين على القيام بنشاطات تجارية جديدة ويساعد على سير وتوسيع الأعمال التجارية القائمة.
ويتم تحقيق ذلك هناك عبر ثلاثة عوامل رئيسية تؤثر في حجم الاستثمارات الخاصة ونوعيتها، وهي:
1- ترسيخ حكم القانون وتطبيق وتقرير سياسات الحكومة بطريقة متوقعة.
2- حسن التنظيم القانوني ودقته وعدم الإفراط فيه، الذي قد يتسبب بالتأخيرات الطويلة الأمد والتكاليف المرتفعة (في تطبيق تنظيمات لعلها جيدة بحد ذاتها) والذي قد يتسبب أيضاً بإبعاد المستثمرين عن نشاط الأعمال.
3- نسبة تفشي الرشوة والابتزازات والفساد في الأجواء البيروقراطية، التي قد تتسبب بتكاليف إضافية ولا تشجع على الاستثمار.
3. 1. 1 - حكم القانون: لا شك في أن ضمان حقوق الملكية هو الوجه الأهم من بين الأوجه الكثيرة لبيئة الأعمال ، التي تعتبر ذات أهمية في نظر المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، فلا مستثمر على استعداد للمخاطرة بموجوداته وأمواله في حال عدم توفر هذه الضمانات. يشكل عدم وضوح حقوق الملكية ظاهرة ملموسة في اليمن وأبرز مظاهرها النزاعات حول ملكية الأراضي التي تغدو حاجزاً أمام النمو والاستثمار في كافة مجالات الاقتصاد. أفادت 22 شركة من أصل 254 في استبيان للقطاع الخاص أجراه البنك الدولي في اليمن سنة 2001م، بقيام دعوى واحدة على الأقل بخصوص ملكية أرضها، وهذا رقم مرتفع بالمقارنة ببلدان العالم الأخرى( بانرجي وماك ليش، 2002م) بيد أن ترسيخ حقوق الملكية وتوضيحها لن يؤثر بشكل يذكر في الاستثمار بدون بروز دوافع فعالة على احترام تلك الحقوق وتطبيقها، وهنا يلعب القضاء دوره في إرسال الإشارات الإيجابية إلى المستثمرين، من حيث التطبيق الحازم والمنصف لحكم القانون. تشكل القدرة على توقع القوانين والتنظيمات عنصراً رئيسياً آخر بالنسبة إلى الشركات في تقريرها إجراء استثمارات جديدة، والحالة اليمنية أفضل مثال على ذلك حيث اشتكى أكثر من 73 % من الشركات اليمنية التي شملها استبيان للقطاع الخاص من عدم الثبات في السياسات الاقتصادية، واعتبروه عائقاً مهماً أمام سير الأعمال ونموها، كما أجمعت 42 % من مجمل هذه الشركات على اعتبار تعديلات القوانين المختصة بنشاطها التجاري غير متوقعة ، سواء أكان ذلك بشكل طفيف أم بشكل عدم توقع مطلق (بانرجي وماك ليش 2002).
وتشتكي الشركات الخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على وجه العموم من الاعتباطية في تقرير نسبة الأرباح الخاضعة للضرائب الذي يتخذه مديرو مصلحة الضرائب وتنطبق هذه اللائحة العامة على اليمن بشكل خاص، حيث اشتكت أكثر من 61 بالمائة من الشركات في استبيان البنك الدولي من تعسف إدارة الضرائب وعدم فعاليتها كمعاقين بارزين أمام سير أعمالها (بانرجي وماك ليش 2002).
تواجه تلك الشركات في عدد من دول المنطقة مشكلة قلة الإنصاف وقلة المساواة في التوصل إلى أنظمة صنع القرارات وحل النزاعات وتناولت إحدى الدراسات صغار المقاولين في اليمن ووجدت أن أقل من شركة واحدة من أصل 6 شركات، تعتبر أنها لا تستطيع التأثير في صياغة السياسات، واعتبر أكثر من 63 بالمائة من الشركات التي شملتها الدراسة أن أكبر مصدر تأثير على الحكومة عند صياغة القوانين والسياسات الجديدة هي الوجاهات والانتماءات الاجتماعية والقبلية وتتبعها الشخصيات ذات النفوذ والاعتبار (كأرباب الشركات الكبيرة أو المديرين المعروفين) بنسبة 3.51 بالمائة.
ولعل أكثر ما يقلق الشركات هي التكاليف المرتبطة بالنزاعات القانونية، فضلاً عن الفترة الزمنية الطويلة اللازمة لحل أي نزاع قانوني عبر النظام القضائي الرسمي للدولة، مع العلم بأنه كلما طالت هذه المدة ارتفعت تكاليف معاملات الشركات. نذكر هنا أن معدلات حل القضايا التجارية المقدمة إلى المحاكم الرسمية، وبحسب دراسة أجريت في اليمن، بلغت 19 % مقارنة بنسبة 66 % لدى اللجوء إلى التحكيم والوساطة، ويعكس ذلك فعالية الاعتماد على شبكة العلاقات والوساطات غير الرسمية، ويبلغ معدل الفترة المطلوبة لحل النزاعات حوالي سبعة أسابيع ونصف .. هذا مستوى جيد على كل حال يفسره على الأرجح الرابط القائم بين الوسيلة المعتمدة لحل النزاع والمدة اللازمة لحله، إذ تحل النزاعات عبر الوسطاء والحكماء بمعدل 6.6 أسبوع بينما يستغرق حلها عبر المحاكم الرسمية 9،13 أسبوع.
3. 1. 2 - نوعية التنظيم: يؤدي الإفراط في التنظيم إلى نفور المستثمرين الفعليين وعزوف المستثمرين المحتملين عن دخول السوق بسبب ارتفاع كلفة تأسيس الشركات وتشغيلها، ويعتبر المقاولون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ككل أن تسجيل الشركات رسمياً عبارة عن عملية طويلة ومعقدة ومكلفة في أحيان كثيرة. وتستغرق عملية الحصول على رخصة لشركة جديدة أكثر من شهر ونصف الشهر في اليمن (57.1 شهر) مقارنة بشهرين في المنطقة ككل ويومين فقط في أفضل التجارب، وترتفع كلفة نيل هذه الرخصة إلى 610،11 ريال يمني.
ويضطر عدد كبير من الشركات الخاصة، تفادياً لتعقيدات الإجراءات الإدارية، إلى تحمل التكاليف الإضافية التي تدفع كأتعاب إلى وسطاء متخصصين لضمان سير أعمالها بصورة منتظمة، وتتكبد الشركات مدفوعات غير رسمية في تعاطيها مع الدولة للحصول على بعض الخدمات أو التصريحات أو المناقصات الحكومية، وتشكل النقطة الأخيرة التي تم بحثها مدخلاً إلى مناقشة قضية الفساد.
3. 1. 3 - السيطرة على الفساد: من شأن الفساد أن يرفع من تكاليف الاستثمارات العامة، ما يتسبب بخفض إنتاجية هذه الاستثمارات ونسبة نموها، ويرتبط ارتفاع مستويات الفساد ببنية تحتية رديئة النوعية، ويزيد الفساد أيضاً من كلفة الاستثمارات والعمليات في القطاع الخاص، وقد أجمعت أكثر من 82 % من الشركات بحسب استبيان لـ 947 شركة يمنية خاصة في خمس محافظات يمنية، على اعتبار أن الفساد من أبرز العقبات أمام سير نمو أعمالها، مع العلم بأن معدل هذه النسبة للشركات الصغرى يضاهي الـ 55 % في مجموع الدول الأخرى التي خضعت للاستبيان نفسه، وتتمحور هذه النسبة بين 1.91 % في محافظة الحديدة و5.75 % في محافظة حضرموت .. ويتسبب الفساد أيضاً بأجواء من عدم القدرة على التوقع وعدم اليقين إزاء توقيت التعديلات والتنظيمات الحكومية ومفعول تطبيق تلك التنظيمات.
يشوب القطاع العام نمطان مختلفان من الفساد: فأولاً نرى الفساد على المستويات العالية حيث يقوم صانعو القرارات من أصحاب النفوذ بالتلاعب بعملية إدارة الحكم بهدف جني المكاسب المالية، وهذه ظاهرة غالباً ما تعرف بارتهان الدولة State Capture يتفشى هذا النمط من الفساد في الأجواء التي تقل فيها الشفافية والتنافسية في السلطة التنفيذية وحيث تضعف آليات المراقبة في السلطتين التشريعية والقضائية، وغالباً ما يؤدي هذا الوضع إلى توزيع انتقائي وغير فعال للموارد العامة، ما لا يفيد إلاّ طبقة محدودة جداً من المجتمع.
أما الفساد على المستوى المتدني أو بعبارة أخرى الفساد البيروقراطي، فهو نتيجة سياسات توظيف غير فعالة لا تعتمد على الكفاءة وقيم النزاهة والاستقامة في الخدمة المدنية، وينبع هذا النمط الثاني من الفساد هو أيضاً من ضعف آليات المساءلة الداخلية (أي داخل إطار الإدارة) التي ترمي عادة إلى تحسين أداء موظفي القطاع العام. وقد درجت العادة في دول المنطقة عامة على اتباع سياسات توظيفية في القطاع العام تشدد على التمسك بالوظيفة، ولا تحبذ الطرد. وقد تنطوي ممارسات التوظيف في القطاع العام على عنصر العلاقات غير الرسمية ومحاباة المعارف والأقارب، ما يضعف آليات المساءلة الداخلية القائمة
3. 2 - تحسين إدارة الحكم يعزز مستوى الخدمات العامة التي تزيد من إنتاجية قطاع الأعمال: تتم إدارة المشاريع الاقتصادية في بيئة تجارية تعتمد على توفير الخدمات العامة بشكل مرض وكفء وعادل (كالطرقات الآمنة والحسنة الصيانة مثلاً) وعلى التطبيق الفعال والعادل للتنظيمات العامة (كقوانين التنافس وتنظيمات الاحتكارات الطبيعية وجباية الضرائب وما شابه). يزيد الحكم الجيد من عائدات الاستثمارات في البنية التحتية، وقد أظهرت بعض الدراسات أن زيادة التوصل إلى المعلومات وتوفير آليات التنافسية الفعالة، أمور من شأنها أن ترفع معدلات عائدات الاستثمار في البنية التحتية ورأس المال البشري. ليست الحكومات مضطرة إلى تأمين تلك الخدمات بنفسها، ولكن عليها الحرص على قيام مقدم تلك الخدمات - سواء أكان مسؤولاً رسمياً أم مستثمراً خاصاً - بتوفيرها على قدر كبير من الفعالية والإنصاف، كما ويعزز التقديم الفعال لتلك الخدمات العامة الضرورية إنتاجية ونوعية استثمارات فيؤدي ذلك إلى نمو أسرع وأكثر استدامة.
3. 2. 1- البنية التحتية: أما غياب البنية التحتية الموثوقة فيؤدي إلى زيادة تكاليف الشركات الخاصة، بما أنه يدفعها إلى تنويع تموينها بالمدخلات الرئيسية، كشراء المولدات الكهربائية الخاصة تحسباً لأي انقطاعات طارئة في التيار الكهربائي، وعلى سبيل المثال، يشكو مقاولو القطاع الخاص في اليمن من انقطاع التيار الكهربائي حوالي 75 يوماً في السنة مقارنة بانقطاعها 15 يوماً في السنة في مملكة المغرب، كما تبلغ نسبة الشركات التي تعتبر انقطاع التيار الكهربائي عائقاً مهماً أمام سير أعمالها ونموها 3.61 % من الشركات ويرتفع هذا الرقم إلى أكثر من 77 % في محافظة عدن (بانرجي وماك ليش 2002) بالإضافة إلى ذلك وعلى صعيد آخر، تشكو الشركات اليمنية من عدم توفر إمدادات المياة بمعدل 82 يوماً في السنة، علماً أن هذا الرقم يبلغ ذروته في محافظة تعز، ومن ثم في محافظة صنعاء. أما حالة الطرق والموانئ فلا تشكل مصدراً رئيسياً لشكاوى القطاع الخاص، إذ أن 29 % فقط من الشركات اعتبرتها عائقاً مهماً لسير أعمالها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشركات الصغرى ( في اليمن هي الشركات التي يعمل فيها أقل من 3 موظفين) هي المتضرر الأول من ضعف البنى التحتية حيث أن انقطاع التيار الكهربائي المتكرر يشكل عائق لسير أعمال تلك الشركات التي تشكل 66 بالمائة من مجمل الشركات التي شملها الاستبيان.
2.2.3 راس المال البشري : يواجه المقاولون في القطاع الخاص في المنطقة ككل قيدا مهما اخر يلقي بثقله على الاستثمار وتوسيع الأعمال وهو عدم التطابق بين المهارات المطلوبة من المستثمرين وبين المهارات المتوفرة محليا، والحقيقة أنه إذا لم ينجح المستثمرون في توظيف يد عاملة مؤهلة ومتدربة فسيضر ذلك بإنتاجية استثماراتهم،ما ينعكس سلبا على النمو في المحصلة الأخيرة وعلى هذا الصعيد اعتبر ربع الشركات اليمنية أن مهارة العمال
دراتهم المتوفرة حاليا تشكل عائقا مهما أمام سير الأعمال ونموها، ويعني ذلك مما يعنيه أن على دول المنطقة تحسين مستوى أنظمتها التعليمية وتزويد اليد العاملة بالمهارات التي تتجانس مع متطلبات عالمنا الحديث.
3.2.3 الأمن والاستقرار البشري : يعتبر استتباب الأمن عاملا رئيسيا لتشجيع الشركات الخاصة المحلية والأجنبية على دخول سوق بلد ما والسعي للاستثمار كما أنه عامل مهم في تشجيع الشركات الموجودة أصلا في البلاد على توسيع رقعة نشاطاتها ناهيك طبعا عن متابعة أعمالها المعتادة والقائمة ويشكل استتباب الأمن والنظام عنصرا اساسيا في توصيل الخدمات العامة الأساسية إلى المناطق النائية في البلاد وكذلك في نقل البضائع والسلع عبر البلاد بصورة متواصلة وموثوقة وعلى الرغم من ظهور بوادر تحسن في هذا المجال نتيجة اتخاذ الحكومة اليمنية قرارات صارمة على غرار منع حمل السلاح في المدن والمكاتب والمنشآت الحكومية ووعودها بزيادة نسبة الاستثمارات الحكومية في المناطق الأكثر تعرضا للتجاوزات على حد سواء على الاستثمار في البلاد وتأكيدا على ماتقدم فإن أكثر من 67 بالمائة من الشركات اليمنية عدت الجرائم والسرقات وقلة النظام عائقا مهما لسير أعمالها وتوسيعها (راجع الرسم رقم 6) وقد ارتفعت تلك النسبة إلى 83 بالمائة في محافظة الحديدة وإلى أكثر من 80 بالمائة في محافظة حضرموت.
4- ضعف إدارة الحكم قد حد من نوعية الخدمات والسلع العامة : حاولت الحكومات اليمنية تأمين كم كبير من الخدمات العامة لجميع مواطنيها وقد تم تحقيق نجاحات الملحوظة في عدد من المجالات منها على سبيل المثال لا الحصر : بناء وتعبيد 16 ألف كيلومتر بين سنة 1990م وسنة 1999 وتوفير خدمات تنافسية للهاتف النقال وبذل جهود كبيرة لتعليم الفتيات في المناطق الريفية الفقيرة.
ولكن على الرغم من ذلك لاتزال هناك مواطن ضعف كثيرة في الخدمات العامة في اليمن مازال معدل وفيات الأطفال في البلاد وعلى الرغم من تحسنه يتعدى الـ 87 بالألف، وهذا من أعلى المستويات المسجلة في المنطقة، ويعاني أكثر من نصف السكان البالغين الـ 15 ومافوق الأمية بينما يعيش أكثر من 30 بالمائة من مجمل السكان بدون مصدر آمن لمياه الشفة، أما نسبة التوصل إلى صرف صحي جيد فتبلغ 38 بالمائة فقط بالمقارنة بنسبة 44 بالمائة لدى الدول ذات الدخل الموازي لدخل اليمن.
لكن لماذا يبرع البيروقراطيون اليمنيون في شق الطرقات ويبطئون في جهود محو الأمية؟ وما سبب عدم التساوي في النوعية والتكاليف في الخدمات العامة؟ من الواضح أن مواطن الضعف هذه لاتعود فقط إلى ضعف التساوي في النوعية والتكاليف في الخدمات العامة؟ من الواضح أن مواطن الضعف هذه لا تعود فقط إلى ضعف القدرات التقنية لدى أفراد الإدارة في اليمن بل تعود أيضا إلى ضعف مماثل في آليات إدارة الحكم، وبخاصة تلك التي تتعلق بالمساءلة العامة، وخصوصاً عندما تغدو الخدمات العامة أكثر تعقيداً، فالهوة في التنمية الاجتماعية مجرد انعكاس لهوة مماثلة في مستوى إدارة الحكم.
5- ردم هوة المنطقة في إدارة الحكم هو تحد وفرصة في آن واحد
يشكل ردم الهوة في إدارة الحكم تحدياً لمجمل حكومات المنطقة وشعوبها بما فيها اليمن، لكنه يشكل أيضاً فرصة قد تثمر مكاسب جمة على مستوى النمو الاقتصادي المستدام والاستقرار الاجتماعي والتنمية البشرية، غير أن التحدي الأكبر هو إنماء شعور لدى المجتمع اليمني بملكية مبادرات إصلاح إدارة الحكم هذه، وإنماء ثقته بإمكانية تحقيقه. إن التشاؤم المتفشي في المنطقة العربية هو تشاؤم بخصوص القدرة على تعزيز إدارة حكم تتسم بالتضمينية والمساءلة، إلا أن هذا التشاؤم لا أساس له. أثبت التاريخ الحديث أن اليمن قادر على تحقيق التغيرات والتطورات إذا ما تحلى حكومة وشعباً بالنية والعزم. ويروي تاريخ اليمن أيضاً سلسلة من النجاحات على صعيد التطور، أبرزها توحيد اليمنين الجنوبي والشمالي، لذا لا بد من إحلال الثقة والطموح مكان التشاؤم.
وتكمن المسؤولية في مواجهة التحديات في الداخل بيد الحكومة والشعب، ولا شك في أنه كان للعوامل والتدخلات الخارجية تأثيرها على المنطقة ككل. كما أن العنف والخلافات اعترضت الطريق إلى الإصلاح.
وأدت النزاعات الإقليمية والمحلية المزمنة الى أثر للجوار طال المنطقة برمتها وقلص من جاذبية المنطقة حيال المستثمرين في الخارج والداخل، وزاد من كلفة الاستثمار فيها. يتحمل الشركاء الخارجيون جانباً من مسؤولية مساعدة المنطقة العربية على خلق الاستقرار والأمان، غير أن المسؤولية الأساسية لا تزال في داخل وصميم المنطقة.
ولا شك « أن الحكم الجيد هو أهم الآليات التي تضمن تلك القيم للشعب اليمني، ويتمحور هذا البحث حول فرضية رئيسية تقول: إن التنمية في اليمن على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية والإنسانية تعيقهاً إدارة حكم تعاني من مواطن ضعف عميقة».
2- إدارة الحكم في اليمن أضعف مما هي عليه في الدول الموازية الدخل حسب المقاييس التجريبية
من الصعب حصر مفهوم إدارة الحكم المتسم بالتعقيد والتشابك ضمن بضعة مقاييس تجريبية، وقد يوجز الإطار رقم 1 الأبعاد الأساسية لماهية الحكم الجيد. إلا أنه بالرغم من ذلك، تجميع البيانات التجريبية المتوفرة في مؤشرات عريضة لإدارة الحكم يمكن أن يدعم التقييم النوعي، ويسمح بمقارنات مع مختلف دول العالم.
تعمد تقرير «إدارة حكم أفضل لأجل التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» الصادر عن البنك الدولي سنة 2003م، فرز مصادر البيانات الموجودة عن إدارة الحكم في المنطقة حسب مؤشرين أساسيين، مؤشر لنوعية الإدارة في القطاع العام، ومؤشر للمساءلة العامة، يقيس المؤشر الأول فعالية البيروقراطية وكفاءتها وحكم القانون وحماية حقوق الملكية ومستوى الفساد ونوعية التنظيمات وآليات المساءلة الداخلية. في هذا المؤشر، يوازي اليمن بشكل عام الدول الموازية الدخل على مستوى العالم، حتى أنه يتقدم عليها قليلاً، فمستوى مؤشر نوعية الإدارة في اليمن هو 5.33 مقارنة بـ 30 لمجموعة الدول المتدنية الدخل، ويقيس مؤشر المساءلة العامة مدى انفتاح المؤسسات السياسية ومستوى المشاركة واحترام الحريات العامة وشفافية الحكومة وحرية الصحافة ومدى توفر الأمن والاستقرار السياسي في البلاد. في هذا المجال يتخلف اليمن عن باقي دول المنطقة وعن معدل البلدان المتدنية الدخل بشكل ملحوظ، فمستوى مؤشر المساءلة العامة في اليمن هو 19 مقارنة بـ 38 لتلك الدول.
3- ضعف إدارة الحكم في اليمن قيد مناخ الأعمال وأثر على نمو القطاع الخاص
أثر ضعف إدارة الحكم في اليمن على الأداء الاقتصادي للبلاد، من خلال تقييد نشاط القطاع الخاص، وهو المحرك الأساسي لاقتصاد السوق. فتساهم إدارة الحكم في رسم السياسات الاقتصادية وتطبيقها، وهذه السياسات تحدد بدورها وجود مناخ أعمال سليم وجاذب للاستثمار ومشجع للإنتاج.
وقد يؤدي تحسين إدارة الحكم في اليمن الى مكسبين رئيسيين اثنين على صعيد نمو القطاع الخاص، أولاً: عبر تحسين الأداء الإداري ما يقلل من كلفة ومخاطر الاستثمار والأعمال، وثانياً: عبر تحسين مستوى الخدمات العامة التي تزيد من إنتاجية قطاع الأعمال.
3. 1 - تحسين إدارة الحكم يشجع المستثمرين على القيام بنشاطات تجارية جديدة ويساعد على سير وتوسيع الأعمال التجارية القائمة.
ويتم تحقيق ذلك هناك عبر ثلاثة عوامل رئيسية تؤثر في حجم الاستثمارات الخاصة ونوعيتها، وهي:
1- ترسيخ حكم القانون وتطبيق وتقرير سياسات الحكومة بطريقة متوقعة.
2- حسن التنظيم القانوني ودقته وعدم الإفراط فيه، الذي قد يتسبب بالتأخيرات الطويلة الأمد والتكاليف المرتفعة (في تطبيق تنظيمات لعلها جيدة بحد ذاتها) والذي قد يتسبب أيضاً بإبعاد المستثمرين عن نشاط الأعمال.
3- نسبة تفشي الرشوة والابتزازات والفساد في الأجواء البيروقراطية، التي قد تتسبب بتكاليف إضافية ولا تشجع على الاستثمار.
3. 1. 1 - حكم القانون: لا شك في أن ضمان حقوق الملكية هو الوجه الأهم من بين الأوجه الكثيرة لبيئة الأعمال ، التي تعتبر ذات أهمية في نظر المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، فلا مستثمر على استعداد للمخاطرة بموجوداته وأمواله في حال عدم توفر هذه الضمانات. يشكل عدم وضوح حقوق الملكية ظاهرة ملموسة في اليمن وأبرز مظاهرها النزاعات حول ملكية الأراضي التي تغدو حاجزاً أمام النمو والاستثمار في كافة مجالات الاقتصاد. أفادت 22 شركة من أصل 254 في استبيان للقطاع الخاص أجراه البنك الدولي في اليمن سنة 2001م، بقيام دعوى واحدة على الأقل بخصوص ملكية أرضها، وهذا رقم مرتفع بالمقارنة ببلدان العالم الأخرى( بانرجي وماك ليش، 2002م) بيد أن ترسيخ حقوق الملكية وتوضيحها لن يؤثر بشكل يذكر في الاستثمار بدون بروز دوافع فعالة على احترام تلك الحقوق وتطبيقها، وهنا يلعب القضاء دوره في إرسال الإشارات الإيجابية إلى المستثمرين، من حيث التطبيق الحازم والمنصف لحكم القانون. تشكل القدرة على توقع القوانين والتنظيمات عنصراً رئيسياً آخر بالنسبة إلى الشركات في تقريرها إجراء استثمارات جديدة، والحالة اليمنية أفضل مثال على ذلك حيث اشتكى أكثر من 73 % من الشركات اليمنية التي شملها استبيان للقطاع الخاص من عدم الثبات في السياسات الاقتصادية، واعتبروه عائقاً مهماً أمام سير الأعمال ونموها، كما أجمعت 42 % من مجمل هذه الشركات على اعتبار تعديلات القوانين المختصة بنشاطها التجاري غير متوقعة ، سواء أكان ذلك بشكل طفيف أم بشكل عدم توقع مطلق (بانرجي وماك ليش 2002).
وتشتكي الشركات الخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على وجه العموم من الاعتباطية في تقرير نسبة الأرباح الخاضعة للضرائب الذي يتخذه مديرو مصلحة الضرائب وتنطبق هذه اللائحة العامة على اليمن بشكل خاص، حيث اشتكت أكثر من 61 بالمائة من الشركات في استبيان البنك الدولي من تعسف إدارة الضرائب وعدم فعاليتها كمعاقين بارزين أمام سير أعمالها (بانرجي وماك ليش 2002).
تواجه تلك الشركات في عدد من دول المنطقة مشكلة قلة الإنصاف وقلة المساواة في التوصل إلى أنظمة صنع القرارات وحل النزاعات وتناولت إحدى الدراسات صغار المقاولين في اليمن ووجدت أن أقل من شركة واحدة من أصل 6 شركات، تعتبر أنها لا تستطيع التأثير في صياغة السياسات، واعتبر أكثر من 63 بالمائة من الشركات التي شملتها الدراسة أن أكبر مصدر تأثير على الحكومة عند صياغة القوانين والسياسات الجديدة هي الوجاهات والانتماءات الاجتماعية والقبلية وتتبعها الشخصيات ذات النفوذ والاعتبار (كأرباب الشركات الكبيرة أو المديرين المعروفين) بنسبة 3.51 بالمائة.
ولعل أكثر ما يقلق الشركات هي التكاليف المرتبطة بالنزاعات القانونية، فضلاً عن الفترة الزمنية الطويلة اللازمة لحل أي نزاع قانوني عبر النظام القضائي الرسمي للدولة، مع العلم بأنه كلما طالت هذه المدة ارتفعت تكاليف معاملات الشركات. نذكر هنا أن معدلات حل القضايا التجارية المقدمة إلى المحاكم الرسمية، وبحسب دراسة أجريت في اليمن، بلغت 19 % مقارنة بنسبة 66 % لدى اللجوء إلى التحكيم والوساطة، ويعكس ذلك فعالية الاعتماد على شبكة العلاقات والوساطات غير الرسمية، ويبلغ معدل الفترة المطلوبة لحل النزاعات حوالي سبعة أسابيع ونصف .. هذا مستوى جيد على كل حال يفسره على الأرجح الرابط القائم بين الوسيلة المعتمدة لحل النزاع والمدة اللازمة لحله، إذ تحل النزاعات عبر الوسطاء والحكماء بمعدل 6.6 أسبوع بينما يستغرق حلها عبر المحاكم الرسمية 9،13 أسبوع.
3. 1. 2 - نوعية التنظيم: يؤدي الإفراط في التنظيم إلى نفور المستثمرين الفعليين وعزوف المستثمرين المحتملين عن دخول السوق بسبب ارتفاع كلفة تأسيس الشركات وتشغيلها، ويعتبر المقاولون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ككل أن تسجيل الشركات رسمياً عبارة عن عملية طويلة ومعقدة ومكلفة في أحيان كثيرة. وتستغرق عملية الحصول على رخصة لشركة جديدة أكثر من شهر ونصف الشهر في اليمن (57.1 شهر) مقارنة بشهرين في المنطقة ككل ويومين فقط في أفضل التجارب، وترتفع كلفة نيل هذه الرخصة إلى 610،11 ريال يمني.
ويضطر عدد كبير من الشركات الخاصة، تفادياً لتعقيدات الإجراءات الإدارية، إلى تحمل التكاليف الإضافية التي تدفع كأتعاب إلى وسطاء متخصصين لضمان سير أعمالها بصورة منتظمة، وتتكبد الشركات مدفوعات غير رسمية في تعاطيها مع الدولة للحصول على بعض الخدمات أو التصريحات أو المناقصات الحكومية، وتشكل النقطة الأخيرة التي تم بحثها مدخلاً إلى مناقشة قضية الفساد.
3. 1. 3 - السيطرة على الفساد: من شأن الفساد أن يرفع من تكاليف الاستثمارات العامة، ما يتسبب بخفض إنتاجية هذه الاستثمارات ونسبة نموها، ويرتبط ارتفاع مستويات الفساد ببنية تحتية رديئة النوعية، ويزيد الفساد أيضاً من كلفة الاستثمارات والعمليات في القطاع الخاص، وقد أجمعت أكثر من 82 % من الشركات بحسب استبيان لـ 947 شركة يمنية خاصة في خمس محافظات يمنية، على اعتبار أن الفساد من أبرز العقبات أمام سير نمو أعمالها، مع العلم بأن معدل هذه النسبة للشركات الصغرى يضاهي الـ 55 % في مجموع الدول الأخرى التي خضعت للاستبيان نفسه، وتتمحور هذه النسبة بين 1.91 % في محافظة الحديدة و5.75 % في محافظة حضرموت .. ويتسبب الفساد أيضاً بأجواء من عدم القدرة على التوقع وعدم اليقين إزاء توقيت التعديلات والتنظيمات الحكومية ومفعول تطبيق تلك التنظيمات.
يشوب القطاع العام نمطان مختلفان من الفساد: فأولاً نرى الفساد على المستويات العالية حيث يقوم صانعو القرارات من أصحاب النفوذ بالتلاعب بعملية إدارة الحكم بهدف جني المكاسب المالية، وهذه ظاهرة غالباً ما تعرف بارتهان الدولة State Capture يتفشى هذا النمط من الفساد في الأجواء التي تقل فيها الشفافية والتنافسية في السلطة التنفيذية وحيث تضعف آليات المراقبة في السلطتين التشريعية والقضائية، وغالباً ما يؤدي هذا الوضع إلى توزيع انتقائي وغير فعال للموارد العامة، ما لا يفيد إلاّ طبقة محدودة جداً من المجتمع.
أما الفساد على المستوى المتدني أو بعبارة أخرى الفساد البيروقراطي، فهو نتيجة سياسات توظيف غير فعالة لا تعتمد على الكفاءة وقيم النزاهة والاستقامة في الخدمة المدنية، وينبع هذا النمط الثاني من الفساد هو أيضاً من ضعف آليات المساءلة الداخلية (أي داخل إطار الإدارة) التي ترمي عادة إلى تحسين أداء موظفي القطاع العام. وقد درجت العادة في دول المنطقة عامة على اتباع سياسات توظيفية في القطاع العام تشدد على التمسك بالوظيفة، ولا تحبذ الطرد. وقد تنطوي ممارسات التوظيف في القطاع العام على عنصر العلاقات غير الرسمية ومحاباة المعارف والأقارب، ما يضعف آليات المساءلة الداخلية القائمة
3. 2 - تحسين إدارة الحكم يعزز مستوى الخدمات العامة التي تزيد من إنتاجية قطاع الأعمال: تتم إدارة المشاريع الاقتصادية في بيئة تجارية تعتمد على توفير الخدمات العامة بشكل مرض وكفء وعادل (كالطرقات الآمنة والحسنة الصيانة مثلاً) وعلى التطبيق الفعال والعادل للتنظيمات العامة (كقوانين التنافس وتنظيمات الاحتكارات الطبيعية وجباية الضرائب وما شابه). يزيد الحكم الجيد من عائدات الاستثمارات في البنية التحتية، وقد أظهرت بعض الدراسات أن زيادة التوصل إلى المعلومات وتوفير آليات التنافسية الفعالة، أمور من شأنها أن ترفع معدلات عائدات الاستثمار في البنية التحتية ورأس المال البشري. ليست الحكومات مضطرة إلى تأمين تلك الخدمات بنفسها، ولكن عليها الحرص على قيام مقدم تلك الخدمات - سواء أكان مسؤولاً رسمياً أم مستثمراً خاصاً - بتوفيرها على قدر كبير من الفعالية والإنصاف، كما ويعزز التقديم الفعال لتلك الخدمات العامة الضرورية إنتاجية ونوعية استثمارات فيؤدي ذلك إلى نمو أسرع وأكثر استدامة.
3. 2. 1- البنية التحتية: أما غياب البنية التحتية الموثوقة فيؤدي إلى زيادة تكاليف الشركات الخاصة، بما أنه يدفعها إلى تنويع تموينها بالمدخلات الرئيسية، كشراء المولدات الكهربائية الخاصة تحسباً لأي انقطاعات طارئة في التيار الكهربائي، وعلى سبيل المثال، يشكو مقاولو القطاع الخاص في اليمن من انقطاع التيار الكهربائي حوالي 75 يوماً في السنة مقارنة بانقطاعها 15 يوماً في السنة في مملكة المغرب، كما تبلغ نسبة الشركات التي تعتبر انقطاع التيار الكهربائي عائقاً مهماً أمام سير أعمالها ونموها 3.61 % من الشركات ويرتفع هذا الرقم إلى أكثر من 77 % في محافظة عدن (بانرجي وماك ليش 2002) بالإضافة إلى ذلك وعلى صعيد آخر، تشكو الشركات اليمنية من عدم توفر إمدادات المياة بمعدل 82 يوماً في السنة، علماً أن هذا الرقم يبلغ ذروته في محافظة تعز، ومن ثم في محافظة صنعاء. أما حالة الطرق والموانئ فلا تشكل مصدراً رئيسياً لشكاوى القطاع الخاص، إذ أن 29 % فقط من الشركات اعتبرتها عائقاً مهماً لسير أعمالها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشركات الصغرى ( في اليمن هي الشركات التي يعمل فيها أقل من 3 موظفين) هي المتضرر الأول من ضعف البنى التحتية حيث أن انقطاع التيار الكهربائي المتكرر يشكل عائق لسير أعمال تلك الشركات التي تشكل 66 بالمائة من مجمل الشركات التي شملها الاستبيان.
2.2.3 راس المال البشري : يواجه المقاولون في القطاع الخاص في المنطقة ككل قيدا مهما اخر يلقي بثقله على الاستثمار وتوسيع الأعمال وهو عدم التطابق بين المهارات المطلوبة من المستثمرين وبين المهارات المتوفرة محليا، والحقيقة أنه إذا لم ينجح المستثمرون في توظيف يد عاملة مؤهلة ومتدربة فسيضر ذلك بإنتاجية استثماراتهم،ما ينعكس سلبا على النمو في المحصلة الأخيرة وعلى هذا الصعيد اعتبر ربع الشركات اليمنية أن مهارة العمال
دراتهم المتوفرة حاليا تشكل عائقا مهما أمام سير الأعمال ونموها، ويعني ذلك مما يعنيه أن على دول المنطقة تحسين مستوى أنظمتها التعليمية وتزويد اليد العاملة بالمهارات التي تتجانس مع متطلبات عالمنا الحديث.
3.2.3 الأمن والاستقرار البشري : يعتبر استتباب الأمن عاملا رئيسيا لتشجيع الشركات الخاصة المحلية والأجنبية على دخول سوق بلد ما والسعي للاستثمار كما أنه عامل مهم في تشجيع الشركات الموجودة أصلا في البلاد على توسيع رقعة نشاطاتها ناهيك طبعا عن متابعة أعمالها المعتادة والقائمة ويشكل استتباب الأمن والنظام عنصرا اساسيا في توصيل الخدمات العامة الأساسية إلى المناطق النائية في البلاد وكذلك في نقل البضائع والسلع عبر البلاد بصورة متواصلة وموثوقة وعلى الرغم من ظهور بوادر تحسن في هذا المجال نتيجة اتخاذ الحكومة اليمنية قرارات صارمة على غرار منع حمل السلاح في المدن والمكاتب والمنشآت الحكومية ووعودها بزيادة نسبة الاستثمارات الحكومية في المناطق الأكثر تعرضا للتجاوزات على حد سواء على الاستثمار في البلاد وتأكيدا على ماتقدم فإن أكثر من 67 بالمائة من الشركات اليمنية عدت الجرائم والسرقات وقلة النظام عائقا مهما لسير أعمالها وتوسيعها (راجع الرسم رقم 6) وقد ارتفعت تلك النسبة إلى 83 بالمائة في محافظة الحديدة وإلى أكثر من 80 بالمائة في محافظة حضرموت.
4- ضعف إدارة الحكم قد حد من نوعية الخدمات والسلع العامة : حاولت الحكومات اليمنية تأمين كم كبير من الخدمات العامة لجميع مواطنيها وقد تم تحقيق نجاحات الملحوظة في عدد من المجالات منها على سبيل المثال لا الحصر : بناء وتعبيد 16 ألف كيلومتر بين سنة 1990م وسنة 1999 وتوفير خدمات تنافسية للهاتف النقال وبذل جهود كبيرة لتعليم الفتيات في المناطق الريفية الفقيرة.
ولكن على الرغم من ذلك لاتزال هناك مواطن ضعف كثيرة في الخدمات العامة في اليمن مازال معدل وفيات الأطفال في البلاد وعلى الرغم من تحسنه يتعدى الـ 87 بالألف، وهذا من أعلى المستويات المسجلة في المنطقة، ويعاني أكثر من نصف السكان البالغين الـ 15 ومافوق الأمية بينما يعيش أكثر من 30 بالمائة من مجمل السكان بدون مصدر آمن لمياه الشفة، أما نسبة التوصل إلى صرف صحي جيد فتبلغ 38 بالمائة فقط بالمقارنة بنسبة 44 بالمائة لدى الدول ذات الدخل الموازي لدخل اليمن.
لكن لماذا يبرع البيروقراطيون اليمنيون في شق الطرقات ويبطئون في جهود محو الأمية؟ وما سبب عدم التساوي في النوعية والتكاليف في الخدمات العامة؟ من الواضح أن مواطن الضعف هذه لاتعود فقط إلى ضعف التساوي في النوعية والتكاليف في الخدمات العامة؟ من الواضح أن مواطن الضعف هذه لا تعود فقط إلى ضعف القدرات التقنية لدى أفراد الإدارة في اليمن بل تعود أيضا إلى ضعف مماثل في آليات إدارة الحكم، وبخاصة تلك التي تتعلق بالمساءلة العامة، وخصوصاً عندما تغدو الخدمات العامة أكثر تعقيداً، فالهوة في التنمية الاجتماعية مجرد انعكاس لهوة مماثلة في مستوى إدارة الحكم.
5- ردم هوة المنطقة في إدارة الحكم هو تحد وفرصة في آن واحد
يشكل ردم الهوة في إدارة الحكم تحدياً لمجمل حكومات المنطقة وشعوبها بما فيها اليمن، لكنه يشكل أيضاً فرصة قد تثمر مكاسب جمة على مستوى النمو الاقتصادي المستدام والاستقرار الاجتماعي والتنمية البشرية، غير أن التحدي الأكبر هو إنماء شعور لدى المجتمع اليمني بملكية مبادرات إصلاح إدارة الحكم هذه، وإنماء ثقته بإمكانية تحقيقه. إن التشاؤم المتفشي في المنطقة العربية هو تشاؤم بخصوص القدرة على تعزيز إدارة حكم تتسم بالتضمينية والمساءلة، إلا أن هذا التشاؤم لا أساس له. أثبت التاريخ الحديث أن اليمن قادر على تحقيق التغيرات والتطورات إذا ما تحلى حكومة وشعباً بالنية والعزم. ويروي تاريخ اليمن أيضاً سلسلة من النجاحات على صعيد التطور، أبرزها توحيد اليمنين الجنوبي والشمالي، لذا لا بد من إحلال الثقة والطموح مكان التشاؤم.
وتكمن المسؤولية في مواجهة التحديات في الداخل بيد الحكومة والشعب، ولا شك في أنه كان للعوامل والتدخلات الخارجية تأثيرها على المنطقة ككل. كما أن العنف والخلافات اعترضت الطريق إلى الإصلاح.
وأدت النزاعات الإقليمية والمحلية المزمنة الى أثر للجوار طال المنطقة برمتها وقلص من جاذبية المنطقة حيال المستثمرين في الخارج والداخل، وزاد من كلفة الاستثمار فيها. يتحمل الشركاء الخارجيون جانباً من مسؤولية مساعدة المنطقة العربية على خلق الاستقرار والأمان، غير أن المسؤولية الأساسية لا تزال في داخل وصميم المنطقة.