الإمام العيدروس العدني .. بين طاعة الله وخدمة العلم

> «الأيام» خالد شفيق أمان :

> إن من عباده الصالحين رجالاً لا يموتون بموت أجسادهم، بل تتجدد ذكريات حياتهم في كل زمن ووقت، وفي كثير من المناسبات، وتحيا في نفوس الأجيال شريف أخبارهم وجليل أحوالهم.

وفي مدينة عدن الرابضة بين الجبال الشماء، المطلة على البحر الزاخر، مدينة الحيوية والذكريات، مدينة التاريخ والآثار، مدينة المظاهر الناطقة بعمق الحياة وعراقة المواطن، مساجدها وزواياها معلنةً عن تاريخ سلسلة من الأماجد الذين عكفوا بين المحاريب للإبلاغ والدعوة إلى الله، والتصدر للتعليم والإفادة.

وهناك تحت سفح الجبل الأشم في جنوب غرب مدينة عدن، يرقب الزائر مسجد الإمام «أبي بكر العدني بن عبدالله العيدروس» وهو مسجد عريق التأسيس بني في حياة الإمام العدني إبان حلوله بعدن خلال القرن التاسع الهجري، وكان هذا المسجد منذ إنشائه مجمع المريدين، ومقصد الفقراء وطلاب العلم. والإمام الشريف السني أبو بكر العدني بن عبدالله العيدروس اشتهر في مدينة عدن بالعيدروس نسبة إلى أبيه، ولقب بالعدني لسكناه في عدن ووفاته بها.

ميلاده ونشأته
ولد الإمام العدني في أوائل القرن التاسع الهجري عام 851 هـ، وقيل عام 852 هـ الموافق 1432م تقريباً، بمدينة تريم الغناء، إحدى مدن حضرموت، وأهم مراكزها الدينية على مر التاريخ.

نشأ الإمام العدني محاطاً بالعناية الخاصة من والده، والرعاية الدائمة من عمه الإمام علي بن أبي بكر السكران بن الشيخ عبدالرحمن السقاف، وكذلك اهتمامات ونظر الشيخ الولي سعد بن علي مدحج، وقد كان لهؤلاء الثلاثة الأفذاذ فضل صياغة قلبه وقالبه، وعلى أيديهم وبتوجيههم اعتنى بحفظ القرآن العظيم، فحفظه، ووعاه وزاد على ذلك أن فتح الله عليه من فهم معانيه ما سطع به النور على محياه، وأخذ بعد ذلك عن كثير من علماء وشيوخ حضرموت.

إقامته وترحاله
عاش الإمام أبوبكر بن عبدالله العيدروس منذ ولادته في حضرموت، متدرجاً في السلوك والعلم، والاستفادة والقيام بمظاهر والده الإمام العيدروس بعد وفاته، وقد بلغت مدة هذه الإقامة المتوالية ثماني وثلاثين سنة تقريباً. سافر إلى الحرمين الشريفين مرتين، الأولى كانت عام 880 هـ (بطريق البر) وعاد منها إلى حضرموت، والثانية كانت عام 888 هـ ومنها دخل إلى زيلع (عاصمة بلاد الصومال آنذاك).

العيدروس في عدن
لما غادر الإمام العدني حضرموت في حجته الثانية سار في طريقه إلى بلاد كثيرة، وعبر على عدن وتهائم اليمن، كزبيد وبيت الفقيه والمراوعة، وكان مع ابن عمه الشيخ عبدالرحمن بن علي، واتصلا في هذه الرحلة بالعلماء والمحدثين والأولياء المتقين حتى بلغا أرض الحرمين الشريفين وحجا تلك السنة، ثم عزم الإمام العدني على السفر بعد الحج إلى زيلع للقاء حاكمها، وكانت معرفته به من الحجة الأولى، وبعد أيام سافر إلى الحديدة بحراً، ومنها إلى تعز في أوائل 889 هـ وكان عازماً على الركوب إلى الشحر، وأرسل إليه علماء عدن بعزمهم على الوصول إلى تعز لتعزيته بوفاة الشريف سراج الدين عمر بن عبدالرحمن، صاحب الحمراء، الذي تزامن موته بتعز مع قدوم الإمام العدني للتعزية، فأرسل إليهم أنه سيأتي إلى عدن، فعزم على زيارة عدن، ولما وصل إلى الحوطة عاصمة لحج أرسل من يخبر أهل عدن بقدومه، فخرج علماء عدن ووجهاؤها وعامة أهلها لاستقباله ودخل مدينة عدن في موكب مهيب يوم 13 ربيع الثاني من عام 889 هـ .

وفي عدن امتلأت القلوب بمحبته وألقى المولى على أهالي عدن شدة التعلق به، فطلبوا منه الإقامة بها، فاستخار ربه في ذلك، فانشرح له الصدر والأمر على مقتضى ما كتب إليه في سابق الأزل، ومنذ ذلك الحين أقام الإمام العدني بمدينة عدن وشيد فيها جامع الأفيح الذي صار طيلة حياته قبلة القاصدين ومأوى لطلاب العلم وغرباء الدارين والمتعلقين والمحبين، وظل كذلك حتى وفاته.

عاداته وبعض صفاته
عاش الإمام أبوبكر بن عبدالله العيدروس منذ صباه موطناً النفس على العادات الحسنة والصفات المستحسنة، فلا غرو إذا تفرد عن الأشباه، وكان وقته مقسماً منذ نعومة أظفاره بين طاعة الله وخدمة العلم وطلبه، ونشر الدعوة إلى الله، ومجالسة أهل الخير وذكر الله تعالى في السر والجهر، وقراءة القرآن وتلاوة الأوراد وخدمة والديه، شغوفاً بمطالعة الكتب النافعة، صارفاً جل وقته في النفع الخاص والعام. وقد كان بعد استقراره في عدن يجمع أتباعه ومحبيه في مجالسه كل ليلة، وخاصة من يعرف أن انصرافه وذهابه يعود عليه بالمعاصي والمخالفات، فكان يحفظهم بالمجالسة وسماع الذكر والقراءة حتى صلاة الفجر، فيصلي بهم في مسجده ويعطي كل واحد منهم أجرة عمل يومه، ويسمح له بالذهاب إلى منزله لينام حتى يتروض حاله على الطاعة، ويعزف عن حب المعصية. كان الإمام العدني كثير الإنفاق حتى ركبته الديون الكثيرة ولامه بعض خاصته على كثرة إنفاقه، فكان يقول لهم: لا تدخلوا بيني وبين ربي، فما أنفقت ذلك إلاّ لرضاه، وقد وعدني أن لا أخرج من الدنيا إلاّ وقد أدى عني ديني. فكان الأمر كما قال، رحمه الله، وقيل إنه لما بلغه عن بعض الناس لوم على تحمله الدين بسبب الإنفاق، وإصلاح ذات البين، وإقامة مصالح المسلمين ووصل رحمه وأقاربه ونيل من قصده من الوافدين وأهل الفاقات وسد خلل ذوي الحاجات، قال:

أشكو إلى الله من لام في كرمي

على المقلين من أنباء إعصاري

أنا الذي لا أرى الإمساك يصلح لي

فلا أفارق جودي خوف إعساري

ثم استطرد قائلاً:

أيمسك المال خوف الفقر ذو كرم

عرق الندى في مجاري جسمه جار

ولو تدينت ملء الأرض من ذهب

ما بات عندي منه عشر اعشاري

واختتمها بقوله:

يا صاح قل للذي بالدين عيّرني

ماذا عليّ بذاك العار من عار

وكان، رحمه الله، بادئ ذي بدء في مدينة عدن يسكن بمنطقة صيرة قريباً من البحر حتى تم تشييد مسجده سنة 890 هـ الموافق 1470م، فانتقل إلى جواره وفتح دروس العلم وحلقات التذكير، وصار مسجده ومنزله ملتقى الأضياف والزوار من كافة النواحي والأقطار.

وفاة الإمام العدني
أفنى الإمام أبوبكر بن عبدالله العيدروس حياته كلها في خدمة مولاه، وإقامة مظاهر العلم والدعوة إلى الله، وجذب الناس إلى الخير والعمل به، ولم يزل كذلك حتى أخذ به المرض فصبر على ما كتب الله عليه أياماً ثم ناداه منادي مولاه ليلة الثلاثاء الرابع عشر من شهر شوال عام 914 هـ وعمره إذ ذاك ثلاث وستون سنة.

الزيارة السنوية للعيدروس
خلد أهل عدن الذكرى المباركة لقدوم الإمام العدني ويوم دخوله إلى عدن كل عام بإقامة الزيارة السنوية للعيدروس، لا كما يعتقد البعض أنها حول وفاته، وللزيارة اهتمام ومظهر كبير في عدن منذ القدم حتى يومنا هذا.

السادة آل العيدروس بعدن تحت ظل مقام الإمام العدني
منذ وفاة الإمام أبي بكر العدني بن عبدالله العيدروس، ومقام آل العيدروس يعلو ويرتفع ويبرز في مرتبة النيابة عن مظهر السادة بني علوي، ومن المعلوم أن مقام آل العيدروس بعدن ظل شامخاً شموخ الجبال على مر القرون، وكان لهذا المقام الدور الفاعل في كافة الأحداث التي شهدتها عدن منذ القرن التاسع والعاشر حتى عصرنا الحاضر.

المناصب الأكارم الذين تبوأوا الاعتناء بمقام العيدروس
منذ وفاة الإمام العدني بعدن في شوال 913هـ ومقامه معمور، ومسجده ودروسه وكافة مصالح المظهر العيدروسي على أفضل الوجوه والكيفيات.

وقد تبوأ هذا المقام الكبير من بعد الإمام العدني عدد من الأبناء والأحفاد وهم:

1- السيد أحمد المساوى بن أبي بكر العيدروس ، توفي بمكة عام 922 هـ (1447م).

2- السيد محمد بن عبدالله بن أبي بكر العيدروس، توفي بمكة عام 978 هـ (1503م).

3- السيد عمر بن عبدالله بن أبي بكر العيدروس، توفي بعدن عام 1000هـ (1525م).

4- السيد محمد بن عمر بن عبدالله بن أبي بكر العيدروس، توفي بعدن.

5- السيد أحمد بن عمر بن عبدالله العيدروس، توفي بعدن.

6- السيد محمد بن أحمد بن عمر بن عبدالله العيدروس، توفي بعدن.

7- السيد علوي بن زين بن محمد العيدروس، توفي بعدن.

8- السيد زين بن علوي بن زين بن أبي بكر العيدروس، توفي بعدن.

9- السيد علوي بن زين بن علوي بن زين بن عبدالله العيدروس، توفي بعدن.

10- السيد زين بن علوي بن زين بن علوي بن زين العيدروس، توفي بعدن.

11- السيد عيدروس بن زين بن علوي العيدروس، تولى المقام من 1902م حتى وفاته (1927).

12- السيد شمس العلماء عبدالله بن عيدروس بن زين العيدروس، تولى المقام من (1927م-1948م)

13- السيد زين بن حسن بن عيدروس العيدروس، تولى المقام من (1948م- مايو 1960م).

14- السيد أبوبكر بن عبدالله بن عيدروس بن زين العيدروس، تولى المقام (1960م- 1966م).

15- السيد عبدالله بن عيدروس بن زين العيدروس، تولى المقام (1966م-1972م).

16- السيد مصطفى بن زين بن حسن بن عيدروس بن زين بن علوي بن زين العيدروس، تولى المقام عام 1972م حتى يومنا هذا.

قام السادة المناصب بعد وفاة الإمام العدني بمواصلة أداء الرسالة العظيمة التي تحمل أعباءها على عاتقه من نشر العلم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وخدمة الإسلام ونفع المسلمين. وتؤكد الوثائق أن أسرة آل العيدروس أسرة يمنية عريقة عاشت في عدن منذ حل فيها جدهم الإمام أبوبكر العيدروس.

الدور الوطني للسادة آل العيدروس منذ القدم وحتى اليوم
لقد كان للسادة آل العيدروس دور بارز في محاربة البرتغال إلى جانب دولة آل طاهر، وقد ورد ذلك في كتاب «تاريخ الشحر» للطيب الفقيه ونقله «حمزة لقمان» في كتاب «تاريخ الجزر اليمنية» وكذلك حسن شهاب في «أضواء على تاريخ اليمن البحري».

كما ورد في كتاب «الاحتلال البريطاني لعدن» للدكتور سلطان القاسمي الأدوار التي اضطلع بها السيد زين بن علوي بن زين العيدروس، وابنه علوي بن زين في المفاوضات مع الإنجليز، وباعتباره القاضي الشرعي لعدن، فقد كان يترأس الوفود التي يرسلها السلطان محسن العبدلي للتفاوض مع الإنجليز خلال الفترة ما قبل الإحتلال البريطاني لعدن، وعندما كان القائد البريطاني الكابتن «هينز» يعد العدة للاستيلاء على جزيرة صيرة، وأنه كان مصمما على القيام بذلك، لكن الوفد الذي ترأسه السيد زين بن علوي العيدروس القاضي الشرعي لمدينة عدن وابنه السيد علوي بن زين العيدروس، وبقية أعضاء الوفد المكون من خمسة أشخاص استطاع تفويت هذا العمل الطائش على «هينز».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى