مع الأيــام...عدن.. مسؤولية عالمية

> فريد صحبي:

> ليس من وحي الخيال ولا (تصانيف).. ذلك الرجل الذي رأيته واقفاً على حافة الرصيف في الشارع أو السوق الطويل كما يسمونه والذي يقع على امتداد شارع الزعفران التاريخي الذي يشق طريقه في قلب مدينة عدن التاريخية.. كانت ليلة الفرح بخروج آخر جندي بريطاني من عدن.. فرحة الاستقلال .. اشتعلت الشوارع بالأنوار.. سوق البهرة غرق في الألوان المذابة في الأضواء والبهارج والزينات.. لكن الرجل الواقف على حافة الرصيف كان يهذي.. اقتربت منه أسترق السمع.. كلمات التقطتها أذناي مما كان الرجل يحدث بها نفسه ويحدث الناس في نفس الوقت ويتوعدهم وهو يهز رأسه دون أن يلتفت إليه أحد:

- فرحانين.. بايجي يوم باتبكوا على هذا اليوم!

يختفي الرجل.. يتوارى في أعطاف الظلمة مبتعداً عن وهج الأنوار.. كانه زائر قدم إلينا من وراء السحاب!

عام ونصف يمضي على اختفاء ذلك الرجل (الزائر من هناك) تنقض بعدها (الجبهة القومية) على رجالها الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا.. قتلت.. اغتالت.. أعدمت ..سحقت زهرات شباب الوطن.. أغلى الرجال.. تغولت.. برزت لها أنياب واستطالت مخالب.. وانعقدت في السماء سحابة داكنة من زفرات ودموع الأمهات والزوجات والأبناء والبنات في كل بيت فقد ربّه أو حبيب العمر أو فلذات أكباد!

تحضرني هذه اللحظة (حدوثة) فكاهية تقول إن أسداً التقى أسداً آخر ودارت بينهما معركة ضارية أكل كل منهما الآخر حتى لم يبق منهما سوى ذيليهما على الأرض.. طبعاً هذا كلام غير معقول.. ولكن هذا هو ما حدث بالضبط للجبهة القومية.. فمنذ الاستقلال الوطني وطوال عشرين عاماً ظل أفرادها يتقاتلون فيما بينهم في دورات دم متتابعة حتى لم يبق منهم على الأرض سوى أطراف ممزقة وذيول وجلود يابسة مغضنة لوحتها حرارة الشمس في عدن!

زميلي المدرس الأستاذ محمد ناشر.. لا أدري ما الذي دعاه الآن لعبور ساحة أفكاري ومجال ذكرياتي.. إذ قبل ما يقرب من أربعين عاماً بينما كنا نسير معاً في (حافة حسين) بالقرب من ميدان التاكسي، اقترب منا جندي دورية إنجليزي يلبس نظارة طبية ويحمل بندقية ضخمة سريعة الطلقات.. تجاسر زميلي فوجه إليه سؤالاً يستفسره عما يفعله هو الآن.. انفرجت أسارير وجه الجندي الإنجليزي ورحب بزميلي ودار بينهما حوار شيق حول التحرر والاستقلال والثورة العربية وجمال عبدالناصر.. وعند استدعاء الجندي الإنجليزي من قبل قيادة الدورية اعتذر الجندي بأدب جم لضرورة الانصراف!

وحيث إن الشيء بالشيء يذكر كما يقولون، دعوني أحكي لكم حكاية أخرى عايشتها أيضاً في تلك الأيام أي قبل ما يقرب من أربعين عاماً.. تنفجر قنبلة يدوية أمام سوق عدن المركزي عند مرور دورية جنود إنجليز.. يفر الناس في كل اتجاه.. يتقافز الجنود الإنجليز من على سيارتهم العسكرية ويتمركزون في مواقع متفرقة.. تعلو صرخات طفلة ملقاة على الأرض بجوار إحدى السيارات.. يتحرك أحد الجنود الإنجليز نحو الطفلة .. يرنو إليها بابتسامة حانية ويحملها برفق.. يسير بتؤدة مستطلعاً الطريق من حوله.. حاملاً بندقيته الأوتوماتيكية بيده اليمنى والطفلة الصغيرة مضمومة إلى صدره بيده اليسرى.. الصغيرة كانت هي الأخرى تتطلع حواليها في هدوء وسكون كأنها في أحضان أبيها يتجول بها ليشتري لها حاجة!

يوم خرج الإنجليز من عدن.. خرج أيضاً الشعب.. خرج ولم يعد.. إلى يومنا هذا.. خرج ولم يعد.. وعلينا أن ننتبه.. أن نفرق بين شعب ورعية.. شعب لا يملك أرضه.. لا يبلغ حقه.. لا يقرر مصيره.. قطيع بقر.. شعب يستسلم لبطش القدر.. يعيش تحت خط الفقر.. كيف نقول إنه توحد.. أو إنه قد تحرر!

وهل توقف القدر عند البطش بالبشر.. ها هو يجهز ويبطش بالحجر.. ابتلع الأرض وقضم الجبل.. نحر البحر وقطع الشجر.. اسألوا عن (صيرة) و(بساتين الطويلة).. أين جمال الطبيعة البكر؟.. أين اللوحة البديعة التي رسمتها يد الفنان العظيم .. الخالق البديع المصور؟.. أين الشاطئ والرمل الأبيض والنورس والماء الأزرق؟.. أين الجسر الذي غنى عليه أحمد قاسم : صدفة التقينا وراح الهوى ويا مركب البندر (فيبك حبيب الروح الحلو والأسمر)؟ يا له من قدر.. يا له من قدر.. أين حقات؟ أين أبو الوادي؟ أين الساحل الذهبي؟.. أين ذهب؟.. ماذا تجدي الشاليهات والمنتجعات وتعبيد الطرقات و.. ولمن.. لا.. لن يصلح (العطار) ما أفسده وعطله طغيان وغرور البشر.. لن يجدي إلاّ أن نتحدى القدر!

إلى متى سيظل يبطش بعدن القدر.. عدن التي هجعت في جنباتها كل أجناس البشر.. لم تفرق لم تتعصب لم تتكبر.. أشبعت الجائع وأطعمت المسكين.. حمت الضعيف وآوت الغريب.. عدن أول موطئ لقدم إنسان.. أول مدينة للبشر.. مباركة في السماء .. محفوظة بدعاء الأولياء.. هي الدنيا .. كل العالم .. عدن مسؤولية عالمية!

E- mail: [email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى