الشيخ أحمد عبدالله أبوبكر باجنيد (1918-2002) رائد التاريخ البصري للمكلا المحروسة

> «الأيام» سند بايعشوت:

> عمق الصورة...يقول الكاتب الفرنسي البيركاموا: «الصحافي هو مؤرخ اللحظة» قد تكون هذه اللحظة (صورة) أو (كلمة).. ولكن الصورة تغني عن ألف كلمة، وهذا صحيح، لأن الصورة واقع مرئي بل هي مرآة تتحدث عن نفسها.

ولعل الشيخ أحمد عبدالله أبوبكر باجنيد رائداً في كتابة التاريخ (البصري) لمدينة المكلا المحروسة.. على غرار رواد التاريخ المدون والشفاهي لمددينة المكلا الذي تعرفه الأجيال المتعاقبة.. غير أن باجنيد قد فتش عن مدينة المكلا حارة حارة، وترك بصماته وراء بنية الصورة التي تحتاج إلى تفكيك عناصرها البصرية المصفوفة، دلالية لتوالدها بلغة تجاوزت مقولة «رولان بارت» بموت صاحبها، ونحن نقول هنا بخلوده في البحث عن أدق التفاصيل، عن عمق الصورة هذه أو تلك وأبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والاثنوغرافية.

لكن..
الشيخ أحمد عبدالله باجنيد، المولود بمدينة المكلا، عاشق للصورة منذ نعومة أظفاره.. كان حاملاً (للكاميرا) كما يحمل البدوي خطام جمله وهو سائر يتدفع، وإذن فإن باجنيد عقد فريد في منظومة التاريخ البصري للمدينة العتيقة، التي عشق بيئتها فراح يكتب كل شيء عنها بصرياً.. كتب بصرياً عن البحر، وعن اليوم المكلاوي، وعن أفراحها وأتراحها، كان ذا حدس وصفاء ورهافة إحساس.. كان، يرحمه الله، زاهر المحيّا محباً للناس ولمدينته التي أحبها بعشق وجنون ورصد بدايات انفعالاتها السياسية والاجتماعية. وبالمناسبة فإن الباجنيد كان عضواً بارزاً في الحزب الوطني بالمكلا في نهاية أربعينيات القرن الماضي .. وفي هذه العجالة لا نريد أن نتحدث عن تاريخه السياسي بقدر ما نريد أن نتحدث عنه هنا كرائد ومدرسة مستقلة في كتابة التاريخ للمكلا المحروسة بصرياً.

وثائقية باجنيد
إن وثائقية أحمد باجنيد كمصور ميداني محترف يختار زوايا رائعة في التقاط صوره، التي يلتقطها كمؤرخ للحظة من جانب (الجماهير)، فهو فنان تعجبه اللحظة ويمسك بها بعفوية بحيث لا يشعر به أحد من الجمهور في التقاط (اللحظة / الصورة)، وبهذا تظهر مجموعته البصرية لحياة البادية، المرأة، الصيادين، المزارعين، الزيارات الدينية، والألعاب الشعبية أكثر صدقاً.. ولذلك عندما وصلت بعثة مجلة «العربي» في أبريل 1965م لإجراء استطلاع «اعرف وطنك أيها العربي» عن المكلا باعتبارها عاصمة حضرموت.. ومفتاح جنوب الجزيرة العربية، والذي نشر في يونيو 1965م، فقد وجد سليم زبال والمصور أوسكار ضالتهما عند الشيخ أحمد باجنيد، الذي رافقهما في رحلتهما التاريخية لالتقاط صور ناطقة عن المكلا أيام زمان.

حميمية التواصل
إن الاحتراف عند باجنيد تحول إلى حميمية التواصل.. رصد خلال حياته (البصرية) عمق الصورة والتي تملك أهمية كبيرة من ناحية أثنوغرافية في دراسة العادات والتقاليد، والملابس وبعض الألعاب الشعبية التي أصبحت في عالم اليوم بالمدينة منقرضة. عمق الصورة عند باجنيد في التقاط (الطمأنينة) في وجوه الناس، بدواً وحضراً، عمق الصورة في التقاط (الأناقة) في الطبقة الوسطى المكلاوية في ستينيات القرن الماضي، عمق الصورة في التقاط طيور النورس وهي تشقشق على سطوح بيوت المكلا البيضاء، عمق الصورة في التقاط بيوت أثرية قديمة في منطقة (النوبة) بحي البلاد كانت عنواناً لتاريخ الدولة الكسادية ثم اختفت بفعل الزحف العمراني على المدينة، وتعد صورة (النوبة) من أجمل ما أبدعته عينا الباجنيد ذات الرؤية البصرية الثاقبة.

متى أضع العمامة تعرفوني
لباجنيد عادة طريفة إذ لا يضع عمامته منسدلة على كتفه، بل يضعها على ساعده مع الكاميرا، وربما هذه طريقة لا يروم بها تمييز نفسه عن الآخرين بقدر ما يكون للمبدعين (تصانيف).. ومع هذا ظلت العمامة والكاميرا متلازمتين ترافقانه في الحل والترحال.. يدخل بهما ملعب بارادم، والذين يعرفون الرجل في السبعينيات يعلمون أنه قد خاض غمار التصوير الرياضي حين كانت الرياضة في تلك الفترة تزهو بأحلى حللها، والتقط صوراً نادرة لمباريات نادرة.

في مركز بلفقيه
لعل أجمل تذكار هو ذلك المعرض الفوتوغرافي الذي أقيم في مركز بلفقيه الثقافي عشية الاحتفال بالذكرى الـ 15 للوحدة، ولقد حكت صور باجنيد كل شيء عن حياة البدو الوافدين إلى المكلا على العير التي تحمل وقود النار (الحطب) وهم بأسمالهم البدوية والنيل المطلي أجسامهم به كأنه القطران.. ورصد حكاوي القهاوي وأحاديث السياسة البريئة في مقهى سالمين خييره حين يذاع بيان من «صوت العرب»، تلك إذن حياة (البانوراما) التي جسدها أحمد باجنيد بالصورة الحقيقية التي تغني عن ألف عنوان وعنوان.. والذين عاصروا الرجل في حياته يعلمون أن للرجل حكايات وهوايات أخرى غير التوثيق البصري.. لكن يكفي الباجنيد أنه ارتبط بالصورة بترانيمها الحالمة وتهويماتها، أقامت له غير ذكرى ما زال أبناء مدينة المكلا يحتفظون بعبيرها الفواح.

والسؤال هو هل كان الباجنيد قائداً لكتيبة مصوري المكلا: عاشور، الأخوان غانم، مجاهد؟ لا ريب أن كل واحد منهم قد أسهم في تأسيس بنيان الصورة، إذ أن لكل واحد منهم أيضاً رؤية خاصة، وهم إلى جانب باجنيد قد كونوا معمل تحميض كبيرا اسمه (الاحتراف) مع أن الصورة لا يجنى منها ربح وفير إلا إذا تقادمت عليها الأزمان والأزمات.

وجائزة لباجنيد
اقترح الدكتور عبدالعزيز جعفر بن عقيل، المدير العام للهيئة العامة للآثار والمتاحف بتسمية جائزة في فن التصوير البصري تدعى جائزة باجنيد، تخليداً ووفاءً لحامي حمى الصور الشيخ أحمد عبدالله باجنيد، لأن لكل مجال رواده.. والريادة لا تأتي إلا إذا كان العشق عنواناً، والرغبة نبراساً، وبهما تكتمل صورة العشق تحت الراية المنصورة في أزهى معانيها.

ولأن منتدى الخيصة يبحث عن مآثر الرجال ومناقبهم، فعلى ذكراه نأمل أن تكون هناك فعالية في هذا المنتدى المكلاوي العتيق يدعى إليها من يعرفون باجنيد وصوره عن قرب.

وبقي أخيراً
أن باجنيد أول من استخدم (السلايد) من النوع العريض على مستوى الجزيرة العربية، إذ يبعث صوره إلى أرقى معامل التحميض في بريطانيا، وكان يمتلك الكاميرات الحديثة في وقته ويختار أجمل الأوقات للتصوير لحظات الشروق والغروب، ولأن الرجل رائد بمعنى الكلمة في كتابة التاريخ البصري لمدينة المكلا، فقد سُجن بعد الاستقلال وأخفى صوره التي تتحدث عن تاريخ الدولة القعيطية عن عيون الثوار الجدد، في وقت لا يملك المرء إلا أن يحرق مقتنياته لينجو بحياته باعتبارها من العهد البائد، غير أن باجنيد كان مدركاً لأهميتها فاحتفط بها للأجيال القادمة ولتاريخ المدينة التي أحبها باجنيد وتنبأ بمستقبلها السياسي والاقتصادي والثقافي .. إنها المكلا المحروسة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى