الوطن في قصائد الشاعر العامي أبوبكر باسحيم

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> إن قضية الوطن من أهم القضايا التي تبناها الشعراء في أشعارهم، فإذا عدنا إلى الشاعر الجاهلي وجدناه أكثر تمسكاً بوطنه، وما المقدمة الطللية والبكاء على الرسوم إلاّ شاهد على ذلك. وإذا نظرنا إلى الشاعر الحديث، وجدناه يحمل تلك المضان التي حملها الشاعر الجاهلي وإن اختلفا في أسلوب التعبير باللغة.

كما أن الشعرالعامي يحذو حذو ذلك، ولكن بلغة خاصة، وأسلوب متميز، وبالنظر إلى ديوان الشاعر العامي (أبوبكر باسحيم) نجد الوطن همه في معظم قصائده، فتارة نجده موضوعاً لقصائده، وتارة نجده مبثوثاً في أبيات قصائده، وتارة نسمعه نبضاً وقيثارة في مفردات قصائده.

أولاً.. الوطن موضوع لقصائده
وردت في ديوان الشاعر قصائد كثيرة تحمل وتعبر عن الوطن من أولها إلى آخرها، مثل قصيدة (الحلى والأديبة- ص11) التي مطلعها:

مريضة بنت سالم والمرض مزمن

تنصفها وخلاها كما المشلول

وقصائد أخرى مثل (نصيحة، ويا سميرة، بشراك بالسعد، ماعاد لش شور وزعيمة نوح....).

إن حب الشاعر لوطنه جعله يحلق عليه بقصائد ثرية بالدلالات المعبرة عن صدق تجربته، إذ كانت مآسي وأحزاناً متوالية.


ثانياً: الوطن مبثوث في قصائده
لقد وردت مفردة الوطن مبثوثة في معظم قصائد الشاعر، غير أنه جعلها دلالات رمزية عكست بيئته وسعة ثقافته وشعره، منها:

1- العنبرية أو بنت بوعنبر
وهي رمز لليمن استقاها من بيئته الجغرافية التي يعيش فيها (البحر شقرة)، وقد بثها في كثير من قصائده، منها قصيدة (ماعاد لش شور)، قوله:

ورى بنت بوعنبر تظلي تدور

ماعادلش شور وانتي في العرف لش كشيفه

فالرمز يوحي بمكانة اليمن، فالشاعر صياد خبير بالبحر، لذا اختار (العنبر) وهو من أغلى منتجات البحر وأندرها ليكون رمزاً لليمن.. وعلى الرغم من ذلك، فإن تلك المنتجة (العنبر) توارثها من يجهلها ولا يعلم بقيمتها، فضيعها بأرخص الأثمان.

2- سميرة
هذا الرمز له دلالة واسعة فهو مشتق من (السُّمرة) منزلة بين البياض والسواد.. والعربي بطبيعته أسمر اللون، لذلك يبدو أن ثقافة الشاعر جعلته يوظف هذا الرمز لليمن باعتبارها جزءاً من الوطن العربي. كما جاء هذا الرمز اسماً لإحدى قصائده (يا سميرة ص23)، وأكده في قصيدة (ماعاد لش شور ص34) قوله:

يا سميرة ورى وجهش عليه الدبور

لا عطر يروح ولاذاكه الثياب النظيفة

وهو يوحي بالندم والحسرة على تغير الحياة من حال إلى حال.

3- سعيدة
جاء هذا الرمز في قصيدتي (بشراك بالسعدص33) و(من يبادلني باسمي ص39) ويلاحظ أن لهذا الرمز ارتباطاً بـ (سميرة)، إذ انتقل به الشاعر من العام (سميرة) إلى الخاص (سعيدة)، فهو رمز تغنى به كثير من شعراء اليمن في قصائدهم وكان من أشهر أسماء اليمن، يوحي بالنماء والحياة والسعادة كقوله:

يا سعيدة ومن ساير سعيدة سعد

بشراك بالسعد والجرح التحم بالبخارة

إن استخدام الرمز في كثير من قصائد الشاعر، بل وتنويعه، يثبت براعته الشعرية في استخدام الصورة الرمزية التي تعد أكثر أنواع الصورة الشعرية تعقيداً على رأي بعض النقاد. وقد يلجأ إليها لضرورات لا تفي أنواع الصورة الأخرى (كالتشبيه، الاستعارة..) بها. والشاعر باسحيم استطاع أن يوظف الصورة الرمزية بحذق ودراية ويجعلها خاضعة لتجربته، يتصرف بها كيف شاء، بل جعلها محوراً لبناء قصائده، عبرت عن موضوعه أحسن تعبير.

ثالثاًَ: الوطن نبض وقيثارة في قصائده
لقد امتزجت لغة الشاعر بموسيقاه في كثير من قصائده، فكانت تنبض بذكر الوطن، ولم نرها إلاّ بعد التحليق - ملياً - على تجربة الشاعر، منها:

1- صوت اللام
جاء صوت اللام في قصيدة (شمس المغيضة ص84) بصورة لافتة للنظر من أول القصيدة إلى آخرها، قوله:

ورى الليلة الدنيا عليها ضباب

وابليس لا قلت كلمة شلها من لساني

ولا سرت في الدحقة سفاني التراب

مغمض العين لا واحد ولا حد يراني

فقد ورد صوت (اللام) في هذين البيتين ست عشرة مرة، فضلاً عن وروده في بقية أبيات القصيدة. وهو حرف نفي يوحي برفض الأوضاع الراهنة في اليمن آنذاك. كما أن استمرارية الحرف حتى آخر القصيدة وانتهاء القافية بالكسر (النون المكسورة) يدل على ما آلت إليه اليمن من التدهور والانكسار.

2- صوت الراء
وظف الشاعر صوت (الراء) في قصيدة (مريضة ص88)، منها:

مريضة بنت بوعنبر ومعدية

وهذاك الملف يحمل لها تقرير

كواها المصعبي كية ورا كية

ولكنه فشل في الكي والتجبير

نلحظ صوت الراء في هذه القصيدة روياً لها، وهو صوت تكراري منفتح، علاوة أنه جاء منتشراً في أبيات القصيدة. وكثرة انتشاره في الحواشي والقوافي يوحي باضطراب الوطن وتضعضعه، لما أصابته من أحداث جسيمة.

3-صوت الحاء
وهو صوت حلق مهموس منفتح، استخدمه الشاعر في قصيدة (زعيمة نوح) روياً للقافية، ولاءمه بكلمات تحمله في الأبيات لتكتمل دلالته، كقوله:

زعيمة نوح من بين المجاري شفتها

تقاصعي في بحر مالي يا زعيمة نوح

فصوت الحاء هنا، يوحي بالضعف والتعب الذي أصاب الوطن، ونلحظ من تلك الأصوات (اللام، الراء والحاء) موسيقى خفية دالة على حزن عميق، كان للقوافي أثر عليه. فالقافية المطلقة (النون المكسورة) توحي بالبكاء والقافية المقيدة (الحاء الساكنة) توحي بالبحة والتعب، والقافية المقيدة الراء الساكنة، توحي بالرجفة. لقد تدرج الشاعر باسحيم في التعبير عن تجربته الشعرية، إذ بدأها بالإيضاح، ثم وظف الرمز وبلغ به إلى درجة الغموض والتعقيد (الوطن نبض وقيثارة) تماشياً لما يتعرض له من مواقف خطيرة كانت سبباً في مرضه وانقطاع صوته. ومع ذلك كله ظل الوطن مبدأه وحياته وعمره.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى