تخبط في السياسات الاقتصادية وغموض في القوانين والقرارات

> محمد عبدالله باشراحيل:

>
محمد عبدالله باشراحيل
محمد عبدالله باشراحيل
من أبجديات أي برنامج اقتصادي لبلدٍ ما، أن يهدف إلى تحسين المستوى المعيشي للإنسان، أو في أسوأ الحالات أن يحافظ على نفس المستوى، وفي بلادنا ومع الأسف، أنَّ تدني المستوى المعيشي سمة من سمات نتائج برامجها الاقتصادية وانخفاضه عاما بعد عام وخاصة للذين يعتمدون أساساً في دخلهم على الأجور والمرتبات، ومن المعروف اقتصادياً أنَّ هناك علاقة وطيدة ومترابطة بين الأسعار والأجور والمرتبات، وبُغية تبسيط تلك العلاقة، فإنه مثلاً في حالة زيادة الأسعار بنسبة (10%) في عام معين وبقاء الأجور على حالها في نفس العام، فهذا يعني أن الدخل الحقيقي أو المستوى المعيشي للمعتمدين على الأجور في دخلهم، سينخفض تقريباً بنسبة (10%) أيضاً. أما إذا زادت الأسعار والأجور معاً بنفس النسبة فإن المستوى المعيشي لهؤلاء غالباً ما سيبقى على حاله، كون نسبة الزيادة في الأجور ستمتصها نسبة الزيادة في الأسعار. وعليه فإن على واضعي السياسة الاقتصادية أن يضعوا نصب أعينهم هذه العلاقة قبل اتخاذ القرارات المتعلقة بالأجور والأسعار، وهذا ما لا يحصل في بلادنا ويثبته واقع الحال المتردي وما آلت إليه الأمور في البلاد في الآونة الأخيرة من فوضى وقلق مريع لدى موظفي الدولة والمتقاعدين بوجه خاص والغالبية العظمى من المواطنين بشكل عام. وهو أيضاً نتيجة التخبط في السياسات الاقتصادية وصدور بعض القرارات السعرية والقوانين المرتجلة المتعلقة بضريبة المبيعات ونظام الوظائف والأجور التي لم تعط الوقت الكافي لمناقشتها مع المعنيين وذوي الاختصاص، وسنحاول تسليط الضوء وبإيجاز على بعض تلك التخبطات والثغرات الموجودة فيها وهي كالتالي:

أولاً: القانون رقم (42) لسنة 2005 بشأن تعديل القانون رقم (19) لسنة 2001م بشأن الضريبة العامة على المبيعات
أ - اسم على غير مسمى: من المعروف أن ضريبة المبيعات هي تلك الضريبة التي يتم تحصيلها عند إتمام عملية البيع ويتحملها المستهلك، ولكننا نلاحظ أن هذه الضريبة يتم تحصيلها في المنافذ الجمركية على المستوردات وحتى قبل دخولها مستودعات المستورد أو تاجر الجملة، وكان يفترض أن نُسمي الأمور بمسمياتها فالأحرى بها أن تكون رسوماً جمركية أكثر منها ضريبة مبيعات، وهذا ليس تبريراً يقدم لمنظمة التجارة الدولية (WTO) بتخفيض الرسوم الجمركية التي هي أحد متطلبات الانضمام لعضويتها بل ضحك على الذقون، ومثل من جاء ليكحل عينها فعماها. وهذا بحد ذاته تخبط.

ب- خرق قانوني ودستوري: أوضح الدكتور علي الزبيري، رئيس مصلحة الجمارك في صحيفة «14 أكتوبر» الصادرة يوم 6/8/2005م بأنه سيتم تحديد رسوم الجمارك بنسبة (5%) ويضاف إليها (8%) ضريبة مبيعات على السيارات، بينما ورد بالمادة (4) من القانون أن «تحسب الضريبة بنسبة (5%) من قيمة المبيعات (حسب ملحق تضمن السيارات الجديدة)». فالتَّخبط واضح، فالقانون ينص على (5%) ضريبة مبيعات وليس (8%)، هذه حالة، والحالة الأخرى حدثني أحد المستوردين للحليب المجفف مثل (نيدو، دانو، كليم) قائلاً «كنا ندفع (5%) رسوماً جمركية على وارداتنا من الحليب المجفف، وتباع العلبة بالتجزئة بحوالي (1850 ريالا) والآن أضيفت ضريبة المبيعات عملياً (8%) بينما القانون ينص على (5%) فقط أي أن إجمالي ما يدفعه المستورد أصبح (13%) من مجموع ضريبتي الجمارك والمبيعات، وعليه فإن سعر العلبة من الحليب سيصل إلى أكثر من (2100 ريال) وبطبيعة الحال سيتحمل الفارق المستهلك، وفي كلتا الحالتين المشار إليهما أعلاه، إذ أن (3%) التي زادتها مصلحة الضرائب لم تصدر بقانون، وبالتالي فهي غير دستورية وغير قانونية حيث نص الدستور في إحدى مواده «لاضريبة إلا بقانون» وقد علمنا أن الضريبة الإضافية (3%) غير القانونية، جاءت نتيجة اتفاق بين مجلس الوزراء والتجار مقابل عدم نزول موظفي الضرائب على المحلات التجارية للتفتيش ومراجعة المستندات، وجاء هذا القانون من ضمن عدة قوانين تهدف إلى خفض الأسعار وتحسين المستوى المعيشي للمواطن، ومع الأسف ما يحصل هو العكس. نعم انخفضت أسعار السيارات فعلاً ، ولكن عامة الناس والأطفال خاصة لا يأكلون السيارات بل يعتمدون في معيشتهم اليومية ويصرفون من دخولهم حوالي (65%) على المواد الغذائية، وبالتالي فإن المستفيد من القانون هم شريحة بسيطة من المجتمع بينما الغالبية العظمى ستكون متضررة، ونحن نتمنى الخير للجميع.

ثانياً: قانون نظام الوظائف والأجور والمرتبات
في الحقيقة لم يأت هذا القانون لتحسين المستوى المعيشي للموظف، بل جاء نتيجة لتنفيذ ما يسمى بالجرعة ذات الحزمة الواحدة، والتي التزمت الحكومة بها أمام منظمات دولية وتأخرت في تنفيذها، وفي مقدمتها رفع الدعم عن المشتقات النفطية وزيادة أسعارها، و بديهياً ستلازمها زيادة على أسعار السلع والخدمات الأخرى، الأمر الذي اضطر الدولة إلى إعادة النظر في زيادة الأجور والمرتبات، ولو اكتفت الدولة بإحداث زيادة في المرتبات بنسبة معينة لكان ذلك أفضل من العجلة في إعداد قانون جديد والدخول في شطحات استراتيجية الأجور والمرتبات بصورة مرتجلة وعاجلة ودون دراسة كافية. الأمر الذي نتج عنه الكثير من الثغرات منها:

أ- كانت الاستراتيجية جزءاً مكملاً للقانون فصدر القانون دون الاستراتيجية، بل وحتى لم يُشر لها في أي مادة من مواده.

ب- يظهر المسؤولون على شاشة التلفزيون ويصرِّحون في الصحف وكل أحاديثهم عن الاستراتيجية الملغية بدلاً من الحديث عن القانون الصادر والمتناقض في مواده.

ج- عرّف القانون في المادة (2) الراتب فقط ولم يُعرِّف الأجر، في حين أن القانون يتحدث عن الأجور والمرتبات معاً.

د- عُرِّف خط الفقر تعريفاً خاطئاً في القانون وقد سبق أن كتبنا عن الموضوع في أكثر من مقالة نشرت في صحيفة «الأيام» الغراء، والمشكلة أن هذا الخط يتم على أساسه تحديد الحد الأدنى للأجر الذي يعتبر حجر الأساس لتحديد المرتبات لكافة الدرجات الوظيفية.

هـ- بُنيت زيادة المرتبات على أساس الحد الأدنى للأجر وقد حُدِّد بعشرين ألف ريال، والحد الأعلى للأجر بثمانية أضعاف الحد الأدنى، وقد أشارت بعض الصحف إلى أن هناك نوايا لتخفيض الحد الأدنى إلى 15 ألف ريال، فإن صدقت هذه النوايا ستنتج عنها مصيبتان:

- المصيبة الأولى: سيصدم بالدرجة الأولى الموظفون بالدولة الذين تقل مرتباتهم عن 20 ألف ريال كحد أدنى للأجر وكذلك بقية الموظفين حتى من هم في درجة وكيل وزارة. حيث سيصبح الحد الأعلى للأجر لهم = 8 ×15000=120000 ريال، بدلاً من 160000 ريال، وستنخفض مرتبات كل الدرجات الوظيفية التي بين 20000 ريال و 160000 ريال وستصبح بين15000 ريال و120000 ريال.

- المصيبة الثانية: أن العالم سيضحك علينا حول قانون تصدره الدولة يوم 18/7/2005م ثم يُعدَّل أو يُخترق دستورياً خلال أقل من شهر، هذه بصراحة مهزلة.

و- جاءت زيادة الأجور كنتيجة حتمية لمواجهة الزيادة في أسعار المشتقات النفطية والسلع الأخرى، والنظرة القصيرة في القانون تتمثل في أن المستفيدين منه هم موظفو الدولة فقط والذين لا يتجاوز عددهم 750 ألف موظف، بينما قوة العمل الفعلية في الجمهورية تزيد عن أربعة ملايين عامل، فماذا عن غير العاملين في الدولة، والبالغ عددهم أكثر من ثلاثة ملايين عامل؟ أليسوا مواطنين؟ فحل مشكلة زيادة الأسعار لا يؤخذ جزئياً بل يجب أن يكون شاملاً، وهنا يكمن القصور وتكمن المشكلة ويكمن التخبط.

ز- يُفْهَم من القانون بأنه ستكون هناك زيادة في المرتبات والأجور، وأيضاً لن تكون هناك زيادة في المرتبات والأجور؛ فالفهم بالزيادة مبني على أساس تحديد القانون للحد الادنى 20000 ريال والحد الأعلى للأجور ثمانية أضعاف الأول، ونص المادة (41) فيه بأن يُعمل بهذا القانون من تاريخ صدوره (18/7/2005م) إذن ستكون هناك زيادة بدءاً من هذا التاريخ، كما يفهم من القانون أيضاً عكس ذلك أي أنه لن تكون أي زيادة في الأجور في الأمد القريب إلا بعد استكمال الكشوفات وانتهاء اجتماعات الوحدات الفنية المعنية المشار لها بالقانون وهذا يحتاج وقتاً الله وحده يعلم كم سنة سيستغرق إنجاز هذا العمل الكبير.

والتفسيرات المتباينة بالزيادة وعدم الزيادة كانت نتيجة للسرعة والعجلة في إعداد القانون وعدم إعطائه الوقت الكافي لإغنائه بالمناقشة مع كل الجهات ذات العلاقة وإنضاجه بدلاً من سلقه، ألا يعتبر ذلك نوعاً من أنواع التخبط؟

ثالثاً: صدر القرار الخاص بأسعار المشتقات النفطية وكانت كالآتي: الكيروسين 45 ريالا، البنزين 65 ريالا، والديزل 45 ريالا، وقنينة الغاز 400 ريال، وبعد الفوضى والاعتراضات التي نجمت عن هذا الإجراء تم تعديل
القرار خلال أيام قلائل بعد مناقشة الموضوع مع ممثلين عن المشايخ وإجراء تخفيضات طفيفة عليها. أمور كهذه تؤكد لنا أن التشخيص والعلاج للحالة الاقتصادية كلاهما خطأ في خطأ، وهذا بحد ذاته تاكيد للتخبط الذي تعاني منه السلطة.

رابعاً: تخبط في تنفيذ قوانين ولوائح تنفيذية للضرائب
هناك ممارسات خاطئة وغير قانونية تقوم بها بعض الوزارات والمحافظات، فقد علمنا أن وزارة الثروة السمكية فرضت ضريبة (6%) من القيمة على سمك الحبار و(3%) على الأسماك الأخرى المنتجة وهي معفية قانوناً، وأن محافظة حضرموت تفرض على المستوردات ضريبة إضافية (2%) تسمى ضريبة التنمية، وأن المسؤولين الأمنيين في محافظة المهرة يأخذون 10000 ريال على كل سيارة قادمة من سلطنة عمان عند مرورها بـ (نفق فرتك) الذي استخدم قريباً، وأن تجار الذهب طُلب منهم دفع ضريبة تصدير بأثر رجعي للذهب الذي صدّروه للخارج قبل صدور القوانين الجديدة. عجباً لما يحصل في هذه الدولة؟ المسؤول يفرض ضريبة مرة ويعدلها مرة ويلغي بعضها مرة أخرى، وكل مسؤول فيها يعمل على هواه داخل مرفقه دون التزام للقوانين وما خَفي كان أعظم .. هذا طراز جديد للتخبط.

خامساً: النتائج والمقترحات
1- ضرورة زيادة المرتبات والأجور بصورة عاجلة ودون تأخير، خاصة بعد زيادة أسعار مشتقات النفط وصدور قانون ضريبة المبيعات وارتفاع أسعار السلع والخدمات بوجه عام، والموظفون والمتقاعدون تحرقهم نار الأسعار ولا بد من إسعافهم وإطفائها بالزيادة العاجلة التي لا تحتمل الانتظار.

2- ما أعلنه المسؤولون من أن أسعار السلع وخاصة المواد الغذائية ستنخفض بعد صدور القوانين الأخيرة كذَّبته حقائق الواقع المعاش.

3- ضرورة الإعداد الجيد لمشروعات القوانين ونشرها في الصحف والانترنت ومناقشتها مع المعنيين وعقد ندوات لها بغية إثرائها بالملاحظات قبل صدورها، والالتزام بتنفيذها بعد صدورها وتوفير الآليات اللازمة للتنفيذ، وعقد دورات تدريبية لشرحها في مختلف المحافظات والإدارات ذات العلاقة.

4- ضرورة وضع حد للضرائب التي تُفرض دون قانون، والالتزام بالدستور وحمايته باتجاه ترسيخ حكم الدولة ومؤسساتها لا التراجع إلى ما يخدم هيمنة المؤسسة القبلية أو المفسدين.

5- يتضح بجلاء أن السلطة تتخبط في سياساتها الاقتصادية، وأنها تعاني من عدم وضوح الرؤيا الذي انعكس في ممارساتها، لأنها مع الأسف لا تعي ماذا يراد لهذا البلد ولكنها تعي ماذا تريد من هذا البلد، ومن مواطنيه، سُلطة هات هات لاسُلطة خذ وعش يا مواطن بأمن وسلام. والسلام ختام.

[email protected]

كبير خبراء ورئيس قسم الإحصاءات الاقتصادية لدى الأسكوا - الأمم المتحدة (سابقاً).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى