حكايات الضباعي في ديوان (كلّم جدار)

> «الأيام» مختار مقطري:

> في ديوانه الثاني (كلم جدار) - 2005م - يلمس القارئ المهتم تطورا في التجربة الشعرية للشاعر عبداللاه الضباعي، من خلال توظيفه لشكل إبداعي جديد هو (الحكاية) أو القصة القصيرة، ومزجه بالقصيدة مزجا لا نفور فيه، فلم يؤثر سلبا على أحد عناصر القصة، كالتصاعد الدرامي وتوزيع الحوار والخاتمة، ولم يخلّ بالبناء الفني للقصيدة، ولم يقحم فيها قوافي متكلفة كضرورة للقص وتصاعد الحوار، مما يعني امتلاكا أكبر للشعر، وبروز مقدرة ابداعية جديدة في البناء القصصي، والأهم هو الجمع بينهما في شكل ابداعي واحد، يتماهى كل منهما في نسيج الآخر، رغم توفر أهم عناصر القصة القصيرة، كالتكثيف في عرض الفكرة وفي الحوار وإيحائية المفردات والخاتمة المفاجئة غير المتوقعة .. إلخ.

فصاحب الثور (مسعد)، في قصيدة (الثور زهير)، يعلن لزوجته (مسعدة) رغبته في بيع ثوره الذي شاخ وأذله الكبر، متناسياً الخدمة الطويلة والشاقة التي قدمها له ثوره بكل وفاء وطواعية، رغم عدم تصريح الشاعر بفضائل الثور الوفي تاركا للقارئ استشعارها ليضمن تضامنا تلقائيا مع الثور المسكين، وتوافق الزوجة تحت إصراره، فيسخر الشاعر من (مسعد) الذي يربط تحقيق المصلحة الذاتية بالتخلي عن ثوره الوفي.. فالوفاء ينبغي أن يكافأ بالوفاء، لكن (مسعد) حريص على مصلحته ليشتري ثورا شاباً قوياً، غير عابئ بتضحيات ثوره العجوز التي قدمها له على مدى سنوات طويلة ليتمكن من تحقيق المصلحة ذاتها.. ولكن الثور العجوز صار يأكل أكثر مما يعمل.. ألا يذكرنا هذا الموقف بحال الحكومة مع المتقاعدين.. يقول الشاعر: مسعد قال يا مسعده يبدو الثور عجز كبر

شيب ما معه مقدرة للمحراث قد هو كبر

قالت وإيش العمل إيش الحل لو ما قدر قال الحل باسوقه بابيعه وباخذ صغير

ويبيع مسعد ثوره (بأبخس ثمن) ولا يجد ثوراً شاباً يشتريه إلا بعد أشهر، وحين تراه مسعدة تكتشف أنه ثورهم العجوز، وأن زوجها قد خدع بعد أن أخفى البائع ملامح الثور.. ولم يكن مسعد يحتاج لأكثر من هذا العقاب على عدم احترامه لوفاء ثوره العجوز.. وقد استوقفتني هذه الحكاية واستوقفني فيها أكثر اسما (مسعد ومسعدة) وذكراني ببطلي حلقات تمثيلة إذاعية يومية من إذاعة صنعاء.. وباعتبار إنها إذاعة رسمية .. فمن هو زهير؟ ألا يذكرنا اسم زهير بالإمارة في القبيلة والإمارة في الشعر.. زهير عبس وزهير بن أبي سلمى .. فهل يحذرنا الشاعر من التخلي عن تراثنا والتنكر لتاريخنا؟ وهل يؤكد لنا أننا لا نستطيع أن نفعل ذلك مهما حاولنا، فتاريخنا يلحق بنا إن لم نلحق به، ويعود الينا - كما عاد الثور زهير لصاحبه - ليذكرنا بما كنا ومن كنا ومن سنكون وفقا لتداعياته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؟. كلها أسئلة أخشى تأويل إجاباتها، ولكنها تبقى دلالة واضحة على اتساع ثقافة الشاعر. وفي قصيدة (البابا والشيطان) نحن في جزيرة يسكنها شعب مسيحي، والقديس في الكنيسة يعلم الناس يومياً ويعظهم ويحذرهم من كيد الشيطان، وذات يوم وهو قافل إلى بيته يتعرض له الشيطان بشكل آدمي، فيصافحه القديس ويرحب به، ولكنه يرفض الاعتراف بأنه من سكان الجزيرة، ويصر إبليس على أنه من سكان الجزيرة فعلا، ويؤكد له أنه من الجان وأنه إبليس .. ومن غير القديس يمكنه التعرف على إبليس؟ فيتعوذ القديس بالله ويمضي في طريقه رافضاً مرافقة إبليس الذي يلحق به فيسقط في حفرة عميقة، ويصيح طالباً الغوث والمساعدة من القديس الذي يرفض، متمنياً لإبليس الموت في الحفرة العميقة، كي تتخلص الدنيا من شروره، ويبقى رافضاً مساعدته، رغم محاولات إبليس اغراءه بوسائل عدة، حتى يقنعه بأن مصلحته تقتضي خلود إبليس، فإذا مات فقد القديس وظيفته ومصدر دخله وهيبته المقدسة في المجتمع.. يقول الشاعر على لسان إبليس وهو يحاول إقناع القديس:

أنت مصلحتك أن أخرج وهذا لك أسلم

لا وظيفة معك رسمي بمرفق وديوان

شغلك ابليس متخصص وهذه مهامك

أنت ببليس عند الكل حاكم وسلطان

فيقتنع القديس ويساعد الشيطان على الخلاص.. فهل فعل الخير مرتبط بفعل الشر؟ وهل القداسة مرهونة بالمحافظة على وجود إبليس مخلداً؟ أسئلة كثيرة ذات أبعاد فلسفية وفكرية في القصيدة تبدو واضحة، ولكنها تحتاح إلى قراءة خاصة وأكثر استفاضة.. فلماذا يستسلم القديس لإبليس؟

وفي الفكر الإنساني دائما ينتصر الإنسان على الشيطان في الأخير.. بينما قديس الضباعي يستسلم مجبراً لإبليس حفاظاً على وظيفته ومصدر دخله وهيبته في المجتمع، وهل لهذه القصة الشعرية علاقة بصك البراءة الذي منحه البابا الراحل، بابا الكنيسة الكاثوليكية (القديس)، لليهود (ابليس) من دم المسيح؟

كلها أسئلة لن أتهور لأجيب عليها أو لمناقشتها، و لعل إجاباتها متاحة في حوار فكري طويل مع الشاعر القدير عبداللاه الضباعي.. ولا أرانـي أهلاً لمـثل هـذا الحـوار.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى