مع الأيــام..يخرجون من جلودهم

> محمد سالم قطن:

> رحم الله أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، شيخ كتاب العربية وكبير أدبائها، فقد استطاع أن يجعل كتابه القصصي الشهير (البخلاء) موسوعة في التحليل النفسي والاجتماعي لنوادر البخلاء وأخبارهم.

ومن بين القصص التي رواها الجاحظ في هذا الكتاب، قصة المروزي نسبة إلى منطقة (مرو) مع العراقي، التي جاءت بعد مجموعة من الحكايات عن بخل أهل مدينة مرو، صاغها الجاحظ في قالب فني بديع. تقول القصة: ( ومن أعاجيب أهل مرو ما سمعناه من مشيختنا على وجه الدهر، وذلك أن رجلاً من أهل مرو كان لا يزال يحج ويتجر، وينزل على رجل من أهل العراق، فيكرمه ويكفيه مؤونته، ثم كان كثيراً ما يقول لذلك العراقي: ليت أني رأيتك بمرو، حتى أكافئك لقديم احسانك، فأما هاهنا فقد أغناك الله عني.

قال: فعرضت لذلك العراقي بعد دهر طويل حاجة في تلك الناحية، فكان مما هون عليه مكابدة السفر ووحشة الاغتراب مكان المروزي هنالك، فلما قدم مضى نحوه في ثياب سفره وفي عمامته وقلنسوته وكسائه، ليحط رحله عنده، كما يصنع الرجل بثقته وموضع أنسه، فلما وجده قاعداً في أصحابه، أكب عليه وعانقه، فلم يره أثبته، ولا سأل به سؤال من رآه قط. قال العراقي في نفسه: لعل إنكاره لي لمكان القناع فرمى بقناعه، وابتدأ مساءلته فكان له أنكر، فقال: لعله انما أتى من قبل العمامة، فنزعها ثم انتسب، وجدد مساءلته فوجده أشد ما كان إنكاراً، قال: فلعله انما أتى من قبل القلنسوة. وعلم المروزي أنه لم يبق شيء يتعلق به المتغافل والمتجاهل، فقال: لو خرجت من جلدك لم أعرفك!).

هكذا رسم الجاحظ على لسان المروزي قمة الإنكار والتجاهل، بتعبير درامي بليغ: لو خرجت من جلدك لم أعرفك.

ومسألة الخروج من الجلد، ولو على سبيل الصورة الكاريكاتورية تعد رمزاً نهائياً لآخر محاولات طلب استعادة الذاكرة، ولكن ما العمل لو كان المقصود قد صمم مسبقاًُ على التجاهل والتغافل حتى آخر المطاف؟

القضية التي طرحها الجاحظ من خلال القصة السالفة، ما برحت تتكرر، المروزي الجاحد وناكر الجميل في قصة الجاحظ ليس وحده اليوم، خاصة ونحن نعيش زمناً رثاً غاض فيه الوفاء وقل فيه الأوفياء. إنني أشفق وأرثي للطيبين والسذج كما يسمونهم اليوم.. هؤلاء الذين يواصلون طيبتهم بكل رحابة صدر وينطلقون من نواياهم الحسنة يمارسون البراءة في عالم لا يعترف بالبراءة، ويجسدون الصدق والشفافية في دنيا (باطنية) تدار بعقلية (البزنس) وتلبس طاقية الإخفاء.

نعم، قد أعرف أنا وقد تعرف أنت، أن هؤلاء الطيبين وهم يمارسون الصدق ويشيعون المحبة بين الناس ينطلقون بدوافع السجايا الحميدة التي يمتلكونها. وحتى في اطار اليد البشرية الواحدة لا نجد كل الأصابع الخمس على الدرجة الواحدة ذاتها وليس لها المقاس نفسه والوظيفة عينها، فكلّ مهيأ لما خلق له.

أخيراًَ، فإننا على رغم مشاعر الإشفاق والرثاء تجاههم نكبر فيهم تلك الروح الشفافة المتوثبة دوماً إلى العلو، فهم يتعاملون بذلك الشعار الرومانسي العظيم (فلتكن شمعة تحترق لتضيء للآخرين). إنهم حملة المشاعل التي تنشر الضوء وتنثر الورود وترش العطور والروائح الزكية على مدى الدرب الطويل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى