أضواء على ريادة عدن في التحديث والتنوير

> «الأيام» فاروق لقمان:

> أظهر الأستاذ الكريم أديب قاسم علماً وافراً ناجما عن بحث مستفيض في تاريخ الوالد محمد علي لقمان وولده أخي علي محمد لقمان، في مقاله القيم في جريدة «الأيام» الغراء الصادرة يوم الأربعاء الثاني من رمضان المبارك الموافق الخامس من أكتوبر 2005م.

وتابعت سرده المدروس لتاريخ الرجلين واسهاماتهما في إثارة النهضة الأدبية- عن طريق الصحافة والشعر- في عدن مركز الاشعاع الرئيسي لليمن منذ الثلانينات، وأحببت أن أرفد ما كتبه الأستاذ الموقر بما أملك من ذكريات عن الوالد والأخ وآخرين كانت لهم اليد الطولى في الصحوة التنويرية في البلاد رغم خضوعها آنذاك للاستعمار البريطاني جنوبا ونظام فردي مطلق جاهل شمالا.

اتسم نشاط الوالد في الميدان الأدبي والإصلاحي والتعليمي حتى قبل إصداره لجريدة «فتاة الجزيرة» في ظروف كانت تبدو مستحيلة عام 1940 من القرن الماضي. فقد اشتغل في تأسيس نوادي الأدب العربي والإصلاح وأيضا التعليم في مدرسة «السيلة» التي كانت تسمى «ريسدنسي» اصلا وتأثر كثيرا بأستاذه مدير المدرسة الأديب المربي الهندي الدكتور عطا حسين الذي غرس فيه حب الاطلاع وشجعه على التقدم لامتحان شهادة «سنير كمبردج» التي كانت قمة القمم في العشرينات لأن البريطانيين لم يكونوا يسمحون بتجاوزها لأسباب تتعلق بفلسفة الاستعمار الغربي آنذاك. طبعا كان الاستعمار الفرنسي والإيطالي والأسباني والبرتغالي والهولندي والبلجيكي أسوأ بمراحل طوال.

وكما استفاد الوالد من توجيه الدكتور عطا حسين كان قد انتفع كثيرا في مطلع حياته من مكتبة تجارية أعدها له والده علي إبراهيم لقمان في أول سوق البهرة بعدن تحولت بعد سنين إلى معرض تحت اسم «المستودع الفائق» أو «سوبريم ستور» كما ذكر الوالد في مذكراته التي نشرها تباعا في «فتاة الجزيرة» في آخر عقد من حياته رحمه الله. هناك في المكتبة كان هو أكثر القراء شغفا، إذ أنه قرأ كل كتبها قبل زبائنه، من الفقه والشريعة إلى الأدب العربي القديم والحديث إلى التاريخ والجغرافيا والتراث، ولعلها كانت كما قال لي أكثر عهوده ثراء، وحكايته مع المكتبة موجودة في كتاب الأخ الزميل عبدالرحمن خباره عن تاريخ الصحافة العدنية.

وبعد المكتبة وعطا حسين ونوادي الإصلاح، كانت الخطوة التالية هي التفكير في الدراسات الجامعية في ظروف كانت ستبدو اليوم محالة، لأنه كان موظفا كبيرا في شركة (البس) الفرنسية الأشهر والأغنى في اليمن كله، ولا حاجة له للاغتراب وهو أب لسبعة أطفال، ومع ذلك عقد العزم وسافر إلى بومبي في الهند حيث انخرط في التحصيل ومعه مجموعة من طلبة المدارس بعدن يشرف على تعليمهم منهم ولده علي وأخوه محمود وابن صديقه محمد أحمد الأصنج وآخرون من آل باسودان ومحمد عبدالله بدوي على سبيل المثال.

بعد التخرج عاد إلى عدن ليشتغل بالمحاماة وفي وقت قصير فكر ونفذ مشروعه المحبب إلى قلبه وعقله وميوله، إنشاء جريدة ثم دار الصحافة والنشر في شارع اسبلانيد بكريتر تحول بعد ذلك إلى شارع باسمه قبل أن يقرر النظام الشمولي إلغاء اسمه من لوحة الشارع كما حاول إلغاء اسمه ومئات آخرين من مغاوير عدن من التاريخ في الفترة الحالكة التي دمر فيها الجنوب وعمل على تخريب الشمال لول لا يقظة الزعيم علي عبدالله صالح، أطال الله عمره، الذي حقق الوحدة اولا ثم أنقذها من الزوال ثانيا في واحدة من أعظم الأنجازات في تاريخ اليمن والعالم العربي عامة. أعود هنا إلى مقال الكاتب القدير الأستاذ أديب قاسم حيث أنه كرس جهدا ضروريا على عصر التنوير الذي شرعته «فتاة الجزيرة» وليس لي ما أضيف إلى سرده وتحليله سوى أن الوالد والأخ علي كونا ثنائيا نادرا في الصحافة اليمنية أو العدنية بالأحرى لأن الصحافة اليمنية كانت معدومة في عصر الملكية المطلقة ليس بالضرورة عن عمد بل كانت تجهل معنى الصحافة ووجوب التنوير عن طريقها وطريق التعليم، فالوالد كان صحافيا أديبا دارسا باحثا من الطراز الأول في تلك الحقبة، لذلك أرسل أربعة من اولاده للدراسات العليا في مصر، منهما اثنان إلى كلية الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وهما علي وحامد بينما درس عبدالرحيم الأدب والتربية يعني أنه كان يحمل شهادتي بكالوريوس من جامعتي فؤاد والأمريكية، وإبراهيم الذي درس العلوم. الأخ علي الذي أشاد به الأستاذ أديب قاسم أضاف أبعادا جديدة إلى صحافة الوالد، وهي الأسلوب المعاصر في الصياغة والشعر بالفصحي وبالعامية. كتب بالعامية عموده شعراً وموزناً تحت عنوان "ياهوه الوراد" وهو من أبدع ما اطلعت عليه في الصحافة اليمنية حتى اليوم لأن "الوراد" الذي ينقل برميل الماء على ظهره ليسقي البيوت كان ظاهرة ضرورية في المجتمع العدني قبل توصيل الماء الصالح للشرب إلى المنازل. أعتقد أن الكهرباء سبقت الماء والهاتف رغم أنها مجتمعة كانت من المعالم البارزة في عدن وحدها بين مدن شبه الجزيرة العربية، وقد يستغرب البعض أن بيوت عدن كانت تتباهى بها من بعد الحرب العالمية الأولى 1914 مباشرة. ولعل من أهم منجزات «فتاة الجزيرة» بقيادة الوالد والأخ علي كانت فتح أبوابها على مصاريعها لكل قادر على الكتابة نثرا أو شعرا جدا أو هزلا تاريخا أو فنا.

كانت السينما قد دخلت عدن في بداية الثلاثينات على يد السيد محمد حمود حسن رحمه الله وهو الوالد السيد طه أطال الله عمره الذي يمتلك دور السينما التي أسسها والده، فاكتظت الجريدة بالمواهب الأدبية والشعرية التي وجدت متنفسا ومنفذا جديدا وشهدت عدن نهضة تنويرية كبرى كتب عنها الأستاذ الأكاديمي الكبير الدكتور احمد الهمداني في اصدار جامعة عدن الموسوم (عدن في عيون الشعراء) وكما فتح الوالد أبواب الجريدة للمواهب اليمنية عموما رحب بطباعة جرائد الآخرين ومنها «الأفكار» الأخوية محمود علي وحمزة علي لقمان، الذي أضحى أشهر مؤرخي اليمن باللغتين حتى وفاته، و«أخبار الجنوب» للسيد محمد أحمد بركات، و«الصومال» للزعيم الراحل محمود جامع أردوح، ثم مجلة «المستقبل» لصاحبها الزميل عايض سالمين باسنيد، وجريدة «الصباح» الأسبوعية للصديق سعيد علي الجريك، وذلك بالاضافة إلى «فتاة الجزيرة» و«القلم العدني» والانكليزية «إيدن كرونيكل».

كان عهدا تنويريا بمعنى الكلمة كما ذكر الأستاذ أديب جاسم - وإن فضل صفة التحديث - وكما وصفه الدكتور الهمداني.

ذلك المد الثقافي الأدبي الشعري والاصلاحي السياسي كان أيضا يتسرب عبر الحدود المصطنعة إلى المناطق المجاورة في الشمال. وتمنيت لو أن الله مد للوالد في عمره لأواصل التلمذة على يديه السخيتين بجانب الأخ المبدع علي محمد لقمان لكن الكارثة وقعت بسرعة مخيفة بعد وفاته. وكنت في مكتبي في الليلة الأولى من الاستقلال عندما أبلغوني شفوياً بإغلاق كل إصداراتنا. هكذا بكل بساطة ثلاث كلمات من الجهل المطبق والظلم الساحق كانت كافية لإيقاف المد التنويري الباهر لعشرين عاماً حتى عاودت جريدة «الأيام» الغراء الظهور مبشرة بخير عميم إن شاء الله تعالى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى