من حضرموت إلى بلاد النارجيل

> فاروق لقمان:

> أشرت باقتضاب في مقال سابق إلى العلاقات التاريخية بين اليمن وملبار في جنوب الهند (ولاية كيرالا الحالية) التي ازدهرت منذ عهد مملكة سبأ والملكة بلقيس. والموضوع ذاته لا يزال يجذب اهتمام الدارسين والمؤرخين الذين مدونا بعدة كتب وأطروحات جامعية عن اندفاع العرب سابقاً إلى هناك واستقدام الملايين من الملباريين إلى الخليج حالياً حتى أنني أقوم حالياً برئاسة تحرير جريدة يومية ناجحة بلغة كيرالا لتلبية الطلب على أخبار وطنهم.

الكلمة نفسها تتألف من مقطعين "مالا" وتعني جبل بلغة المليالم و"بر" العربية التي تعني الأرض كما تشير جزيرة زنجبار الأفريقية أو بر الزنج. التجارة بين البلدين كانت عبر الطريق البحرية بين أقصى جنوب اليمن وأقصى جنوب الهند لأنها يسيرة ومستقيمة وقليلة المخاطر خلال أشهر معينة في السنة درسها العرب بعناية فائقة للاستفادة من رياح المواسم ذهاباً وإياباً، وكلمة موسم تحولت بعد ذلك إلى الإنكليزية مونسون. ولذلك يتحدثون حالياً عن مواسم الأمطار في المحيطين الهادي والهندي التي روت ورعت عدة إمبراطوريات منذ حوالي خمسة ألف عام.

ولما كان الجنوب العربي الذي يشمل عمان واليمن يفتقر إلى منتجات معينة مثل الخشب والأقمشة والتوابل ويضطر أهله إلى الاغتراب والاستيطان اتجه الناس إلى أقرب نقطة هبوط في شبه القارة الغنية بموارد طبيعية لم تكن تخطر بالبال آنذاك.

فاستوطنوا قبل الإسلام وبعده ملبار ومنهم من واصل تجواله بين مسقط رأسه ووطنه الثاني حتى أن الزائر للمنطقة ليجد مئات الأسر الهندية تحمل أسماء عربية من السادة الحضارم وواصلوا نشاطهم التجاري بين البلدين وبعضهم حمل اسم الملباري أو المليباري أو المنيباري نسبة إلى ملبار عندما عاد أحفادهم إلى الوطن. وهناك التقيت بآل فقيه والبارامي والجفري وشهاب.

وانقلبت الآية بعد ذلك إذ تدفق أهالي كيرالا التي يصل عدد سكانها إلى ثلاثين مليوناً خمسهم من المسلمين إلى دول مجلس التعاون التي كانت ولا تزال بحاجة إلى أيد عاملة متهاودة التكلفة.

ويقول المؤرخ الأستاذ سريدارا مينن في كتابه المرجعي عن كيرالا إن زيارات الأجانب لأغراض تجارية شملت بالإضافة إلى العرب، الآشوريين والبابليين والفينيقيين واليونانيين والرومانيين والصينيين. وبعد التجارة وصلت الديانات اليهودية ثم النصرانية والإسلام لتؤثر على الثقافة المحلية وتتأثر بثقافتها وعاداتها. فاستفاد الجميع من ذلك التلاحم الوثيق.

ولا بد أن توابل كيرالا التي ذاع صيتها كانت الأكثر جذباً لكافة الزوار الذين وصلوها براً وبحراً لتلبية طلبات الأسواق قبل الميلاد كما ذكرت سابقاً عندما ازدهرت الحضارة الفرعونية وجاراتها في العراق ومعاصرتها في الصين، ولعل توابل الهيل والقرنفل والفلفل الأسود كانت الأكثر حظوة في أنحاء العالم حيثما استطاع الناس دفع أسعاره الباهظة. كما استخدم المصريون التوابل واللبان اليمني في صناعة العطور، وكانوا من أوائل من صنعها مع الدهون التي استخدموها في تحنيط ملوكهم وكبراء قومهم. وقيل إن الملكة المصرية حتشبسوت أرسلت أسطولاً من خمس سفن لشراء كميات هائلة من التوابل للاستهلاك المحلي والتصدير عبر ميناء الإسكندرية. كما أشار العهد القديم والإنجيل إلى الكمون والهيل والدهون الهندية المستوردة من ملبار وأن ملكة سبأ حملت معها لنبي الله سليمان عليه السلام هدايا منها بعد وصولها إلى ميناء عدن المحطة الأولى للسفن القادمة من الهند كما كانت مأرب نفسها من أكبر محطات الترانزيت في العالم.

وتهافت الأوروبيون على الزنجبيل والهرد والفلفل والهيل - أصلها إيلم، والقرنفل - أصلها قرانبو، لإدخاله في الطعام وصناعة الدواء والعطور - كما فعل المصريون من قبلهم وشغفوا بها حتى أنهم حولوا الكلمة الملبارية أنجي إلى زنجي ثم زنجير الذي أطلقنا عليه زنجبيل ولا يزال يمثل عنصراً مهماً في غذائنا وشرابنا كما أنهم استعاروا كلمة أورينزي الملبارية وحرفوها إلى أريزي وتعني الأرز. واشتد التنافس على منتجات ملبار بعد رصد حركة الرياح الموسمية ودفع الأوروبيون الذهب والفضة مقابل التوابل والحرير والقطن الرقيق المعروف باسم الموسلين عن طريق ميناء عدن. بريطانيا وحدها تضم اليوم أكثر من تسعة ألف مطعم هندي راق.

كل هذه الاتصالات تركت آثاراً عميقة على كيرالا - كيرا في الأصل تعني النارجيل - أصلها ناليكيرم وأضافت إلى أقصى جنوب الهند أبعاداً عالمية تركت بصماتها في كافة المجالات الاجتماعية ثم الدينية.

وقد أشار الأستاذ مينن إلى العديد من المؤرخين العرب الذين زاروا ملبار أو كتبوا عنها ومنهم سليمان وابن الفقيه وابن رشد وأبوزيد والمسعودي وهو الذي زار بعد ذلك سري لانكا وجزر المالديف، والبيروني والإدريسي وياقوت ورشيد الدين والقزويني والدمشقي وأبو الفدا وابن بطوطة. وهذا الأخير ربما كان الأنشط والأغزر كتابة عن تاريخ ملبار التي زارها ست مرات وترك سجلاً وافراً عن مقاطعة كاليكوت واصفاً أهلها وملوكها وعاداتها وتجارتها.

فقدت ملبار استقلالها بعد ذلك بوصول طلائع الاستعمار الأوروبي ممثلاً بالبرتغالي فاسكو داجاما ثم بالفرنسيين والبريطانيين الذين انتشروا وهيمنوا على كل شبه القارة حوالي أربعمائة عام حتى استقلت الهند وجاراتها عام1947.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى