أيــام الأيــام..بل .. مدن الرماد العربية

> حسن علي كندش:

> «ما الذي نصنعه في عمر.. نقصانه في الازدياد .. أنت لا حي ولا ميت ولا أنت على خط الحياد.. أنت شيء مبهم يسبح ما بين الشياطين وما بين العباد.. عائش من غير زاد.. ميت دون معاد.. عربي أنت في المنفى.. ومنفاك بلاد.. نفيت منها البلاد» أحمد مطر

تتراءى في أعيننا حد الدمع .. وفي آذاننا حتى الطنين مشاهد وأخبار تكاد تخنقنا وتدفع الغصة إلى الحناجر، تصيبنا بالحشرجة من هول ما يجري في بعض مدننا العربية .. تناقضات من الفرح والدم، تداخلات من الرقص طرباً .. وألماً .. مدن تسبح في العسل حتى النخاع .. وأخرى تغرق في الدم ومدن تبيع الوهم وأخرى تشتريه .. مدن تدوس على أفئدة أطفالها جنازير دبابات وأخرى ينهش قلوب أبنائها فساد المافيات.. مدن تقاوم وتصمد حتى آخر قطرة دم.. وأخرى تساوم بلا دم.. مدن تنقطع أوصالها من بعضها البعض.. وتعيش حالة اغتراب فظيعة.. حين تستباح أرضها لسكان آخرين.. وأخرى مجمدة حتى إشعار آخر.. وفي نهاية الأمر كل ما يجمع بينها أنها مدن عربية لم تعد تشتعل.. أضحت مدناً من رماد .. مدناً اشتعلت فيها جذوة العزة والكرامة من زمن غابر .. وبقي الرماد المتراكم .. والمتطاير هنا وهناك يعمي العيون.. ويغطي الوجوه حتى لم نعد نعرف إلا اللون الرمادي.. لم نعد نفرق بين الأبيض والأسود.. رماد في رماد.. مدننا رمادية.. بل يكاد الرماد يدفنها ولا حتى وهج.. مواقفنا رمادية.. مؤتمرات وتصريحات وحكايات واتفاقيات ووعود كلها رمادية.. أحلامنا وأوجاعنا رمادية.. أنظمتنا رمادية.

هل قذفت يوماً الجبال براكين من رماد علينا وهل بقي تحت الرماد ولو جمرة؟.. وحتى لو بقيت جمرة فإنها لن تشعل جذوة الرفض فيها.. بل ربما تشعل بعضاً من أنواع (الشيشة).. ليزداد الدخان دخاناً ورماداً والعتمة عتمة وندخل في نفق الهلوسة والتخدير.

مدن من الخليح إلى المحيط.. أين منها تلك المدن المشتعلة نوراً ولمعاناً.. أين تلك المدن الهائجة والمزلزلة، أين تلك المدن الملتهبة رفضاً وغيرة.. وعياً وثقافة.. أين منها.. إنها مدن خامدة خاملة تعيش الوهم والإحباط واليأس.. لم تعد مدناً.. استمرأت الخنوع.. وأضحت بلا ملامح.. ولا تعبيرات.. ولا حتى طعم أو رائحة لها.. مدن تعيش الخوف من صبحها حتى صبحها.. وتلهث وراء المذلة.. وتلهو بالفتات والنفاق بلا استحياء.. مدن ينخر فيها العفن والفساد حد الخراب بلا انتباه.. مدن تختزل وتنكمش جغرافيتها وديموجرافيتها وتاريخها في بعض رموز خاوية .. ويل لهكذا مدن متصلة حتى التماهي ببعضها البعض في الملهاة.. ومنفصلة حد الجحود عن بعضها البعض في المأساة.. سلسلة من المدن العربية تأريخ وجغرافيا عريقين في الجذور، الأصول تتهاوى مدينة بعد مدينة بلا حراك حلقة بعد حلقة.. ولا حتى محاولة للشد والتآزر.. ولا حتى حلم فيها بوميض أو بإضاءة أو بنور لعله يضيء ليلة رمادية.. لكن كيف يمكن أن يشتعل الرماد؟!

مدن من المحيط إلى الخليج منها ما يشتعل ويتحول إلى رماد سريعاً لعدم تواصل الاشتعال من السلسلة.. ومنها ما هي رماد أصلاً دون اشتعال.. وأخرى من كثرة تكدس رمادها يذره الإعلام في العيون.. بل أضحت تتغذى رماداً.. مدن يتم إطفاؤها حتى قبل أن تشتعل وأخرى غير قابلة للاشتعال بأي وقود.. مدن لا تتقد أو تتوهج حتى في وجه نفسها.. الغريب في الأمر حد المصيبة أننا رابضون على مخزون هائل من وقود وطاقة الاشتعال تكفي ناراً موقدة حتى الأزل.. إلا أننا ربما لا نعرف أين الفتيل.. أو ربما نحن أصلاً بلا فتيل اشتعال وقد يبدو أنه ضاع منا في لحظة توهان معلقة بالماضي.. ليبقى الرماد في مدن أدمنت الغيبوبة والثمالة حتى أصبحت بلا صوت بلا موقف.. وكأنها مستسلمة لتيار جارف.

مدن من الخليج إلى المحيط تبدو لك أنها مسقط رأس (لرجال صدقوا ما عاهدوا الله) وإذا بك تكتشف أن بعضاً من هذه المدن مجرد مساقط للفلوس.. وسقوط للنفوس.. ورؤوس ساقطة.. فماذا يرجى من هكذا مدن لا خيار أمامها إلا خيار (السلطة).. مدن لم تضع أمامها أي خيارات.. ومن ثم لم تعد قادرة على الإيفاء بأي استحقاقات مصيرية أو مستقبلية.. بل أن الأمر وصل إلى أن الدم الذي يسفك حالياً وربما مستقبلاً في بعض المدن العربية- من هول خمدتنا- لا نراه أحمر كاللهب يشعلنا.. بل يبدو أننا نراه بلون الرماد لهذا لم يعد يستثيرنا شيء حتى ضياعنا.. في وقت تستثار فيه (ثيران) في حلبة مصارعة أسبانية لمجرد التلويح لها بخرقة حمراء.

مدن من الخليج إلى المحيط أصبحت تمنحنا العزاء.. في كل حين.. ونبحث فيها فقط عن الرضا في كل حين وندعو فيها دائماً بطول البقاء لمن يستحق أصلاً الفناء.. مدن الرماد تلك خمدت جذوة الجمر فيها فمن حاول أن ينفخ للبحث عن بعض لهب مخفي هنا أو هناك.. يتطاير الرماد في عينيه ويصاب بالعمى من القهر لأن ما تحت الرماد رماد وما فوق الرماد رماد مضاف إليه إحساس لا يموت ولا يحيا.. فمتى نشتعل إذن؟؟!! لعلنا نحرق حياة مذلة بالقهر ونضيء نوراً في مدن طال بنا أمد ظلامها.. ورمادها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى