نفوق مخطوطة في مطبعة جامعة عدن

> «الأيام» أحمد صالح رابضة:

> ليس من قبيل الغلو والتزيد القول: إن هذه أولى الوفيات التراثية في مطبعة جامعة عدن. وهناك العدد الوفير من الأعمال التراثية وضعت في أرفف النسيان وباتت في خبر كان، في حين حظيت أعمال أخرى لا ترقى إلى الدرجة الدنيا من الجودة والإتقان بالمزيد من الرعاية والعناية.

ويبدو جلياً أن هذه الظاهرة المشينة قد اتسع نطاقها في الجامعات اليمنية فهجرت التراث أو كادت استناداً إلى قول الشاعر الشعبي «إعادة الماضي إلى الحاضر محال»، فالتراث من وجهة نظر بعض أصحاب القرار في الجامعات ضرب من الماضي المقيت الذي لا حاجة لنا في إعادة نشره، ولعل هؤلاء الداعين إلى ذلك قد سبقهم في سنوات خلت أناس دعوا إلى حرق التراث برمته.

ولعلنا لم ننس بعد الدعوات التي أطلقها بعض الجهلة من ساسة العهود البائدة بأنه آن الأوان لحرق مكتبة الأحقاف الخطية، ثمرة جهود العلماء والمفكرين الأقدمين. وقد حال دون تنفيذ هذا المخطط وقتذاك لفيف من الغيورين والعلماء والمثقفين وعلى رأسهم الأستاذان علي عقيل بن يحيى وعبدالله أحمد محيرز رحمهما الله.

ولعل من طرائف جامعة عدن في الآونة الأخيرة أن وأدت مشروع فهرسة المخطوطات وعرضها على شبكة (الانترنت)، وقد بذلت لجنة فهرسة المخطوطات التي ترأسها صاحب هذه السطور، جهوداً مضنية في الإعداد لهذا العمل وإخراجه على الوجه الأكمل مع قدر يسير من القصور كان نتيجة طبيعية للإرباك الذي رافق العمل خلال طباعته الأولى على الحاسب الآلي، ولولا جهود الأستاذ الفاضل صاحب الأيادي البيضاء في خدمة التراث والعلم الدكتور صالح علي باصرة، رئيس جامعة عدن الأسبق، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي حالياً، ورغبتنا الجامحة في إبراز هذا العمل لظل في الأرفف زمناً طويلاً، مع يقيننا أن شبكات الانترنت المختلفة أخذت في نشر التراث الخطي على صفحاتها منذ زمن مضى. وكنا نود أن يكون لجامعة عدن والجامعات اليمنية كافة قصب السبق في ذلك، ولكن لا حياة لمن تنادي، فأبرز المكتبات الخطية في بلادنا مغلقة في وجوه روادها بحجة الإصلاح والترميم الذي طال مداه فتجاوز السنين، أو بحجة وفيات القائمين عليها الذين بموتهم أوصدت الأبواب وأغلقت النوافذ وهذا - مما يؤسف له - ما لا نسمع به في العالم كله.

إن قصر نظر بعض القائمين على التراث بعامة في بلادنا ساعد في التهام الأرضة له، الأرضة البشرية والحيوانية، فتسربت المخطوطات إلى خارج الوطن وطبعت بغثها وسمينها، حُقق بعضها ولم يحقق البعض الآخر، كما رحل بعض المحققين الأكفاء، وشاخ البعض الآخر منهم ورغب المحدثون عنها فهجروها هجراً قبيحاً. وكان أولى بالجامعات اليمنية وكلياتها ومراكزها العلمية المختلفة المساهمة الجادة في التحقيق والنشر كلاً في مجال اختصاصه، لكن لا ذا تأتى ولا ذا حصل، فبعض القيادات الجامعية من وجهة نظرنا مازالت ترى خفية أن المخطوطات ما هي إلا تراث ماضوي ينبغي استئصاله على أي نحو كان، إما بتركه على أرفف رثة عاثت الأرضة في جنباتها وأخذ السوس بتلابيبها، أو بهجرانه ونسيانه والسكوت عنه كأن لم يكن، وهذا هو المتبع في وقتنا الحاضر.

لقد شاهدت العديد من المخطوطات العلمية المتميزة المعروضة في أرفف معارض الكتب العربية والدولية وقد حققت ونشرت في مجالات شتى (مجلات نشر تراث تاريخ العلوم عند العرب) في الطب والحساب والرياضيات والكيمياء وغيرها، وبعضها رسائل صغيرة كما هو حال المجاميع الخطية في مكتبة الأحقاف وغيرها، هذا ما تلمسه في سوريا والأردن ومصر حيث يقوم الأساتذة المحققون في كليات الجامعات بتحقيق هذا التراث ..

الأهم والمهم أن هذه الجامعات سعت إلى تأهيل كوادرها المتخصصة في هذا المجال وفسحت المجال لأبنائها في الجامعات من طلاب الماجستير والدكتوراه لخوض هذا المعترك العلمي وهيأت السبل كافة الكفيلة بتحقيق العمل على أكمل وجه، في حين أحجمنا نحن كما عهدنا أنفسنا عن العناية به ووجهنا طلاب الدراسات العليا إلى اختيار موضوعات لا تمت بصلة إلى إحياء التراث العربي والإسلامي وغربلته وإحياء ما فيه من ايجابيات، وهي كثيرة لا محالة، بهدف استلهامه لخدمة نهضتنا الحديثة فطلابنا اليوم يخوضون في موضوعات لا طائل تحتها تتقارب وتتشابه في معطياتها وأهدافها وربما أساليبها وصياغاتها ولهذا وغيره من الأسباب الأخرى تعرضت المخطوطات إلى الاندثار وغدت مرتعاً خصباً للتسوس والتآرض، ولو أن هذه القيادات الجامعية في الجامعات اليمنية وكلياتها المختلفة قد حددت برامج بعينها تلزم الدارسين والباحثين بتحقيق التراث الخطي لرأينا بأم أعيننا كتب التراث الخطي، الطبي، والفيزيائي والكيميائي، والنباتي على صغر أحجامها وضآلة موضوعاتها معروضة في دور النشر والمكتبات ومحققة تحقيقاً علمياً منهجياً وافياً يسهم بقدر أو بآخر في النهضة العلمية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المنشودة.

ومن طرق الاندثار السائدة التي تمارسها الجامعات اليمنية في هذا الصدد عدم ايلاء أدنى عناية لنشر المخطوطات كالعناية المبذولة في طباعة المنشورات والكتيبات الإعلانية الإعلامية، وعلى سبيل التمثيل لا الحصر مخطوطة تاريخ حوادث السنين ووفاة العلماء العاملين والأولياء والصالحين للمؤرخ محمد بن عمر بلفقيه المتوفى بعد عام 1001هـ على الارجح الاعم وهي المخطوطة التي يصفها العلامة (سارجنت) بأنها من أبرز مصادر التاريخ اليمني الحضرمي في القرن العاشر الهجري، وقد قام صاحب هذه السطور بتحقيق العمل قبل نصف عقد من الزمان، وبذل فيه جهوداً مضنية مذيلاً بالفهارس العلمية الوافية سلخت من عمره السنوات الطوال، ونال عليه إجازة الماجستير بدرجة امتياز، ومنح شهادة جامعة عدن التقديرية لنيل قصب السبق الأول على مساق التاريخ الإسلامي، وكرم بحضور فخامة رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح، ودولة الأستاذ عبدالقادر باجمال رئيس مجلس الوزراء.

وقد اطلع الأستاذ الجليل العلامة جعفر الظفاري، على العمل في مسودته الأولى ورفع تقريراً إلى رئيس الجامعة الأسبق الأستاذ الدكتور صالح علي باصرة، مشيداً بالجهود العلمية المتميزة في العمل وداعياً إلى طباعته ونشره، ومع ذلك كله فقد تعثرت طباعة العمل في مطبعة الجامعة بحجة شحة الامكانيات وضخامة العمل على حد زعمهم، وظلت المخطوطة قابعة نصف عقد من الزمان في أرفف المطبعة.

وطرق المحقق أبواب المسئولين في الجامعة بدءا برئيس الجامعة وانتهاء بالمختصين فيها، ولكن دون جدوى والأظرف من ذلك أن هناك من يفرق بين المخطوطات، فهذه صنعانية وتلك حضرمية، وليس غلواً القول إن سبب الإحجام عن مواصلة مشروع نشر فهارس المخطوطات وعرضها على شبكات الانترنت يدخل في هذا الإطار إلى جانب الأسباب المالية التي غدت عقبة كأداء إذا أريد بها نشر التراث الماضوي البائد.

ولقد دعا مؤخراً الأستاذ عبدالقادر باجمال رئيس مجلس الوزراء في ملتقى علمي، وهو الرجل المثقف الحصيف، إلى ايلاء عناية خاصة بالتراث والمآثر، وعتب على قيادات الجامعات عدم عناياتها بالتراث الوطني ومخلفاته المختلفة القائمة والمندثرة والخطية والمطبوعة ..ولكن:

لقد أسمعت لو ناديت حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي

وقد تكررت الدعوات في كثير من المحافل المحلية والدولية، وتعجب الآخرون من صنيعنا إزاء هذا التراث فقد سبقنا الآخرون إلى نشره بغثّه وسمينه كما أسلفنا، وظل لدينا مهملاً تطوي صفحاته الأرضة والقوارض والاتربة المكدسة، فأخذ هؤلاء في نشره على صفحات شبكات الانترنت ونسبوا بعضه إلى ناشريه وكأن لا صلة له بالتراث اليمني مع يقيننا أنه تراث عربي إسلامي محض، ولكن لا ضير في الخصوصية التي يتميز بها فلكل تراث خصوصية، ونحن مازلنا نراوح مكاننا ونخبط خبط عشواء كعادتنا التي جبلنا عليها، وها هي المنايا تختطف المحقق تلو المحقق والعالم تلو العالم دون أن نتمكن نحن في الجامعات اليمنية من زرع بذرة التحقيق بين صفوف منتسبينا من الأساتذة والمدرسين وطلاب الدراسات العليا نستثني من ذلك الجهود الفردية، كما حان الآن وقت التقاعد فتقاعد العلماء والمفكرون والأساتذة الاكفاء ذوو الخبرات الواسعة أو هم في طريقهم الى تنفيذ نظرية «مت قاعداً» على حد تعبير صديقنا الكبير الاستاذ الأديب عبدالله سالم باوزير طيب الله ثراه، وزاد ذلك الطين بلة، وكان ينبغي بل يجب أن يخلف هؤلاء رعيل آخر في من ذوي الكفاءات العلمية في مجالات التحقيق والدراسات الانسانية المختلفة، فمما يوسف له أننا لم نضع هذه التوجهات ضمن استراتيجيتنا في تطوير الكليات العلمية وتنمية كادراتها العلمية وفقاً لذلك ورحنا نعالج أموراً لا تمت بصلة مباشرة بالمهام العلمية، وأوسعنا أنفسنا ضرباً ولطماً ونقداً لا مبرر له في ورش العلم الكثيرة التي كثر هرجها وقل ثمرها وأودعت قراراتها الارفف وللأسف الشديد، لكننا الآن نسمع عن تطوير جذري في مناهج العمل العلمي والبحث العلمي في الجامعة، وتزويد الكادارت المكدرة بأجهرة الحاسوب إلى غير ذلك مما نقرؤه على عجل في المنشورات، بيد أن الخوف مازال يعقد الألسنة من أن تظل هذه التوجيهات رهينة حبيسة في الأوراق والمنشورات وحدها.

أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى