يوم من الأيــام..حكاية (م) عرفتها عندما كنت صغيرة

> سلوى صنعاني:

>
سلوى صنعاني
سلوى صنعاني
التقت بي ذات مساء لمحت حزناً أطل من عينيها ينم عن وجدان منكسر، سألتني إن كنت أعرف إحدى العرافات تقطن ضاحية من ضواحي لحج (الحوطة). أجبتها بالنفي، لم أسألها عن غايتها لأنها كانت مدركة بالنسبة لي فهي ترى في تلك العرافة طبيباً مداوياً لجرح بداخلها.

همست في داخلي إنها «الشعودة» قد عادت من جديد إلى حياتنا.

تلك لحظة أعادتني إلى الماضي لمسافة لا تقل عن خمسة وثلاثين عاماً .. عندما كنت صغيرة أهرع إلى الموالد الموسمية المشاعة في منطقتي والتي ينتظرها من لديهم مرضى بفارغ الصبر ووعودهم في حالة الشفاء بالنذور. فهم من تسعفه الفرصة يتعافى ..ظنا منه أن الولي فلان النائم تحت التراب بداخل قبة يتدفق إليها الأهالي لأخذ حفنة من تراب القبر قد أعطاه العافية وشفاه .. ومنهم من واتتهم الفرصة لتحقيق غاية ما -أي خدمتهم الظروف في الحصول عليها - فهرعوا بالوفاء بتقديم النذور لرجل ميت لا حول له ولا قوة. يدعونه بتبليغهم مناهم ..مع أن في الأصل أولى لهم أن يدعوا له الرحمة والمغفرة.

تلك جزئية أو ملمح من ملامح الاعتقادات السائدة في طفولتي. ولكن ما لا أستطيع نسيانه تلك المرأة (م) صاحبة الزار التي كانت تقيم حفلة حمراء لثلاثة أيام بلياليها وأرجو أن لا تفهم «حمراء» بالمعنى المتعارف عليه. بل أطلقت عليها هذا الوصف لأنني كنت أشاهد الدماء الحمراء للأضحية القرابين.. كانت المرأة ترتدي طوال تلك الأيام الثلاثة ملابس حمراء وتربط رأسها بعصابة (خيط أحمر مذهب) وتدعو فرقة رجال متخصصين في الضرب على الإيقاعات (الطبول) مع الاهتمام بتركيزي على نافخ المزمار .. وتذبح القرابين متواكبة مع العزف والرقص ..وكل عزف خاص بنوع الزار فمنه العمراني والآخر الحبشي والشامي (المتعظم).. مسميات ومفردات لها قاموس خاص بمثل هذه الطقوس المرعبة ..في تلك الحفلات كانت الشابات المحبطات نفسياً يظن أهلهن أنهن مصابات بالريح الأحمر (الزار) لا يمكن علاجهن إلا على يد (م).

أثناء قرع الطبول المصاحب له صوت المزمار تقاد الشابة إلى الحلبة لترقص رقصة الزار المعروفة وإذا لم يعجبها صوت الإيقاع ..ترد بصمت بإيماءة الرفض يهز رأسها وهي تغلق عينيها ..فيستجيب المعنيون قائلين «ليس عمراني» بل «حبشي» فتقرع الطبول بالعزف الخاص به أحيانا تتجاوب وأحيانا ترفض بصمتها وهز رأسها حتى تستقر على الإيقاعات الخاصة بهذا النوع أو ذلك عندها تجثو على ركبتها وتهز رأسها بقوة يمنة ويسرة ومع تلك الحركة ينتثر شعرها وتستمر ومعها يستمر قرع الطبول بقوة حتى تدوخ وترتمي على الأرض مغشية عليها.. فيأتون بماء يرشونها به .. ويقودونها إلى حلبة الذباحة فيذبح القربان (خروف أسود) وتطلى الشابة بدمه ثم يغمسون خاتما ذهبيا بالدم .. وبعد تنظيفها يأتون بالبخور ويأتون بها إلى الحلبة لترقص بمعية (م) التي يطلق عليها اسم «العلقة» ولست أدري حتى هذه اللحظة ما معناه.. وهكذا تفوق الشابات من مرضهن .. إشكالات كثيرة ومتعددة لمثل هذه الشعوذات قد ألجمتها سطوة السلطة.. وصممت لأكثر من ثلاثة عقود لتعاودنا مجددا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى