عاشق النغم .. الفنان الملحن محمد علي عبيد

> «الأيام» صالح حسين الفردي:

> للكلمة الشعرية الرقيقة فضاءات متسعة من الوجد والشجو والحنين، حين تنطلق من ذات عاشقة متيمة بالصدق والانتماء للمحب، للجمال، للأرض، للوطن، لكل فيض إنساني نبيل، وتزداد هذه الفضاءات اتساعاً ومتعة واقتراباً من النفس الإنسانية الشفيفة المحلقة في خيالات الهوى والأحلام التي تضيف إلى الروح بهجة وحبورا، وتتعمق هذه المشاعر والرؤى والأحلام إذا ما (تغمست) هذه الخواطر، واعترافات النفس في الكلمة الشعرية بنغمات لحنية عذبة شجية رقيقة أخاذة يعمد إليها الفنان الملحن مضيفاً روحاً جديدة تتماهى مع الذات الشعرية الأولى مشكلة وجه وملامح النص الشعري الغنائي الجديد، وبقدر ما يتعمق الملحن في خفايا الكلمة الشعرية وإيحاءاتها ومضامينها التي غزلها المبدع الشاعر وسكب فيها لواعج روحه وآهاته وأناته، يأتي اللحن مضيفاً موسيقى ثانية تزيده ألقا ورقة وعذوبة فيتسرب في دواخلنا كحالة وجد شفيفة نرحل معها في متاهات المدى واختلاجات الروح العاشقة للفن والإبداع.

عبيد والعطاء اللحني
من الفنانين الملحنين الذين تعاملوا مع الكلمة الشعرية بهذه الروح العاشقة للفن والإبداع، الفنان الملحن المتفرد في قوالبه اللحنية منذ البدايات الأولى التي جاءت في منتصف الستينات من القرن الماضي، وكان للصدفة دور في تحريك مياه النهر النغمي الكبير الذي انهمر من ثنايا أحشاء وخواطر روحه فيما بعد، حين بعث الشاعر الغنائي الكبير أحمد سالم البيض - كعادته- إلى مدينته الأثيرة غيل باوزير بنص شعري ليعمد إلى تلحينه أحد ملحني هذه المدينة الكثر حينها، ووصل إلى فناننا عبيد عن طريق أحد اصدقائه الذي طلب منه محاولة تلحينه كغيره، فكان اللحن المتميز الذي وجد طريقه الى صوت الفنان المبدع عبدالله سالم مخرج وهو لحن أغنية (قول باتوب يا قلبي قنع قول باتوب) وأعلنت هذه الرائعة الغنائية عن ميلاد هذا الطود الفني والملحن الكبير الذي مازال يعطي نغماً أصيلاً رقراقا عذبا، وقد راجت له العديد من الألحان التي نسبت لغيره بعد أن تجاوزت ألحانه (200) لحن، منها على سبيل المثال (من مد لي يده، رفع رأسه علي خلي تكبر، لم يزل طعم شهدي في فمك لم يزل، الصدق في قول الصراحة، كثر الله خيرك، نحمد الله جات منك، عمل طيب وسيبه، كذاب ومخادع، قل لبو محضار، سدها واستريح، لا تأمن الخائن ولا تضمن قليل الخير، ما صبرت عانفسك كيف الناس باتصبر عليكن إن سار رمضان، بس أرجوك لا تروح، غرك المظهر الجذاب، على الله العوض، خابت ظنوني فيك يا مغرور) وغيرهن الكثير من الروائع الغنائية التي شكل فيها ملحننا المبدع محمد علي عبيد ثنائيات مع الشعراء احمد سالم البيض، احمد سالم بامطرف، وثنائياً فنياً مع الفنان الكبير عبدالله سالم مخرج، وإن تغنى له الفنان الكبير كرامة سعيد مرسال، والفنان القدير محفوظ محمد بن بريك وغيرهم.

عبيد والأصالة
الملحن الفنان البديع محمد علي عبيد يذهب في طرائقه اللحنية للنصوص الغنائية إلى التنوع اللحني والإيقاعي، فهو يغرف من بحر التراث الشعبي الذي تشبع به، وأدرك قيمته الفنية وضرورة تجديده وتجذيره من خلال (عصرنته) مع الإبقاء على اصالته وهويته التي شكلت الذائقة العامة وأسهمت في الارتقاء بوعي وثقافة المجتمع، هذا الوعي والإدراك من لدن فناننا القدير محمد علي عبيد إلى جانب الموهبة الثرية لديه جعلته يتفرد في وضع ألحان تتميز بالعمق والأصالة، ممتلئة بالشجن والعذوبة تهمس في دواخلنا موقظة فينا الجذور الأولى للفن الاصيل التي لم نعد - اليوم- نهتم بها كثيراً بعد أن طغت موجة الغناء (اللا غنائي) ولم يعد يقرع آذاننا رقيق القول وحلو اللحن وقوة الأداء والطرب الرفيع، فنجد في عطاءاته وإبداعاته السلوى والرقي الفني الذي يعلق في الذاكرة الفنية، طارداً الغثاء والغث الشعري واللحني الذي يجول في الأزقة وينسرب في كل الأمكنة، وهو دور يزداد أهمية في زمن اللا فن، ويؤكد أن الفنان الأصيل يظل قادرا على الإبداع والعطاء متجرداً من الأنانية وحب الظهور الذي يذهب اليه كثير من مدعي الفن، بينما يبقى المبدعون الحقيقيون يرسمون لوحة الصدق والوفاء للتراث، للاصالة، لرسالة الفن الخالدة على الرغم من تجاهل كل الجهات الثقافية والإعلامية الرسمية والجمعيات والمنتديات الفنية لهذه الكوكبة النيرة التي نهمس: ألم يحن الأوان بعد للألتفات لمثل هذه القامات الفنية الباذخة والعمل على خلق ظروف ملائمة، حياتية، وفنية، وإعلامية، يعيد إليهم بعضا مما غرسوه فينا، أم أن الجحود ديدن القائمين على مثل هذه المؤسسات والجمعيات والمنتديات؟!

همسة لا بد منها
يبقى الرواد والعمالقة أكثر قدرة على الخروج بنا من شرنقة الانحدار الفني وانعكاساته على الذوق العام، وما يجلبه من انتكاسات متعددة فنياً وثقافياً وسلوكياً واجتماعيا، فالثقافة السائدة والفنون المنثورة في أي زمن وواقع معاش هي ترجمة حقيقة لما وصل إليه المجتمع من وعي وإدراك وأخلاق، وبذلك يكون الإهمال الكبير اليوم لمثل هذه الأعلام الفنية والثقافية هو البداية الحقيقية للسقوط المريع لكل زوايا الفن والإبداع، فهل نفيق؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى